إنهيار مشروع التأمين الصحي "الحضاري"

منذ تعهد وزير المالية نهاية العام الماضي «بحل المشاكل الإدارية واللوجستية التي تعوق الاستمرار بمشروع التأمين الصحي (الحضاري)»، ما فتئت مشاكله تتفاقم، فاليوم، يتكشف المشهد عن فوضى عارمة قوامها اندفاع محموم لمقدمي الخدمة نحو التسعير الكيفي لخدمات كيفية، على التوازي مع ترعرع الاستغلال لحلقة المؤمنين الأضعف.
تقهقر زمن «الوفرة والأرباح الطائلة»، تكفل بإطاحة كل ما هو (حضاري) في المشروع قبل أن ينقلب إلى «بازار» لصاحب الكلمة الفصل في بضاعته، لا بل تكاد ممارسات بعض أطرافه: مخابر وأطباء وصيادلة ومشاف وشركات نفقات، أن ترقى -بالفعل- إلى «احتيال» كان لـ«أبقراط» أن يحلق لحيته لو عاصرها.
فبعض الصيادلة تحول لمجرد باعة يمكن تصور ما قد يفعلونه قياساً بالضبوط التي نظمتها نقابتهم بحقهم في 2014، وهي-بالمناسبة- تزيد بمرة ونصف المرّة عن ضبوط سائقي السرافيس بدمشق وثلاثة أضعاف باعة المازوت والغاز وضعفي اللحامين.

أما بعض الأطباء والمشافي، فلا شيء يشي بإصابتهم بداء «الباعة» ليس لأنهم ليسوا كذلك، بل لأن نقابتهم مصابة بداء «الصمت» عما يمارسه بعض منتسبيها المنضوين في شبكة الخدمة، فما يتحدث عنه المؤمنون يندى له الجبين، لا بل وصل الأمر -بالبعض- إلى تقديم الخدمة الطبية للمؤمن قبل مطالبته بفاتورة كارثية، والذريعة: ألم تعلم لقد خرجنا من شبكة الخدمة فهات «الكاش»؟ على حين المخابر المختلفة تعيش في كوكب مستقل لا سلطة عليه لوزارة الصحة التي تكتفي هذه الأيام بجولات على الأسواق لتفقد رائحة «الشاورما»، علها تلتقط منها رائحة «فيروس الكبد A».
لو يعلم وزير المالية، فهذا ما تبقى من «حضارية» لمشروع التأمين الصحي بعدما أضحى «لقيطاً» لا تعترف بأبوته أي من الجهات الحكومية، وهذا واقع ينذر جدياً بانهيار المنظومة لدى أول اختبار جدي مع حاجات الموظفين الصحية الأعلى كلفة.
ثمة مشكلة في كفاية أقساط التأمين، هذا صحيح، لكن، وريثما تعلم الحكومة أن عليها معالجة الأمر، ماذا سيفعل المرضى.
اتحاد نقابات العمال لا يفوت مناسبة دون أن يسجل رفضه لحال منظومة التأمين، وصل به الأمر مؤخراً للإعلان عن إقامة مشفى عمالي إنقاذاً لمنتسبيه من حلقة الاستغلال و«البهدلة» التي تدفع الخزينة ثمناً غير قليل لها، وفي الواقع، فقد يشكل الطرح العمالي منفذاً لمنع انهيار المشروع، عبر إعادة هيكلته وإدخال الاستشفاء المأجور في المنظومة الصحية الحكومية كطرف رئيس في الخدمة، وهذا بالطبع قد يتطلب دوراً ما لشركات النفقات العاملة.
للهيكلة الجديدة أن تساعد مؤسسة التأمين الوطنية على تجاوز مشكلتها البنيوية مع تراجع قيمة القسط التأميني كجذر للمشكلة، كما لها أن تحل بعض المعضلات، ومن بينها تسهيل انضمام القطاعات الإنتاجية إلى المظلة التأمينية، وهذه الأخيرة تتطلب -بدورها- توسيعاً ممكناً يشمل تغطية مرضية أوسع للمؤمنين الحكوميين الـ750 ألفاً، كما تسهيل ضم المتقاعدين وذوي الشهداء.
ومع هذا وذاك، يمكن للهيكلة الجديدة أن تدعم المشافي الحكومية وتؤمن سيطرة أوسع على جودة الخدمة، بمساعدة من شركات النفقات، أن ترأب الخرق الأمني الذي يمثله تهجير الملفات الطبية العام لموظفي القطاع الإداري إلى قواعد بيانات خارج سورية.

BUSINESS 2 BUSINESS

تعليقات