ضوابط التأمين الطبي - بقلم / علي بن طلال الجهني

لعل أهم مصادر صعوبات تقديم خدمات صحية جيدة أو حتى مقبولة، أن المطلوب منها بالسعر الذي يقدر على دفعه عامة السكان أكثر وبأضعاف عدة من المعروض من الخدمات الصحية المطلوبة.
وهل يمكن أن يقوم القطاع الخاص التجاري، ممثلاً بشركات التأمين الصحي، بعلاج النقص الشديد الملحوظ، بين ما هو متوافر من خدمات صحية بتكاليف إجمالية يقدر على تحملها عامة المواطنين وبين المطلوب؟
ابتداءً لا بد من إصدار ضوابط تمنع شركات التأمين التجاري من الانتقائية وفقاً للمكان والحالة الصحية للمؤمّن عليه وعمره، وهلماجرا. كما تلزمها أيضاً استمرار تأمين من سبق وباعتهم «بوليصات» التأمين بالأسعار نفسها التي سبق البيع بها.
فلا يجهل أحد أن المملكة العربية السعودية شبه قارة وتشمل عدداً ضخماً من الهجر والقرى والبلدات الصغيرة، وربما لا يكون من المربح بيع بوالص التأمين في كل قرية وفي كل هجرة وبلدة، كما أن شركات التأمين التجاري عادة إما أن ترفع تكاليف التأمين أو ترفض التأمين على الأسر والأفراد الذين يصاب أحدهم بمرض عضال، أو بمرض آخر مكلف علاجه. ويقول متخصصون إن نسبة من أصيبوا من السعوديين بمرض السكر فقط تجاوز 20 في المئة.


ومعنى ما تقدم أنه إذا غابت الضوابط فإن التأمين التجاري سينتقي من يكون من المربح التأمين عليهم قبل إصابتهم بأمراض مكلف علاجها، ولن يوفر التأمين في كل بقعة يسكنها أحد من المواطنين.
ومن جهة أخرى، إذا تم استحداث أنظمة تمنع من «الانتقائية» وتمنع رفض بيع التأمين بالأسعار نفسها على من سبق التأمين عليهم، فإن التأمين التجاري سيكون للأسف مكلفاً جداً لن يستطيع عامة الناس دفعه.
وما الحل؟
ابتداءً لا يوجد حل جذري لكل صعوبة من صعوبات تقديم الخدمات الصحية للجميع بتكاليف معقولة.
بريطانيا استحدثت ومارست ولا زالت التأمين العام مع وجود خدمات صحية خاصة للقادرين على تحمل تكاليفها العالية.
وكندا استحدثت نظاماً صحياً عاماً أو ما سماه الدكتور (طبيب) عبدالعزيز السماري «اجتماعياً»، يوفر خدمة صحية جيدة للجميع يتم تمويلها بطريقة غير مباشرة من طريق ضرائب يدفعها الجميع، سواء استخدموا الخدمات الصحية المتوافرة للجميع أم لم يستخدموها.
لكن تكاليف التأمين الصحي العام في كندا، والتي تموّلها الضرائب، عالية جداً، وصلت إلى أكثر من 200 بليون دولار كندي، مع أن عدد سكان كندا يقارب عدد سكان المملكة العربية السعودية.
أما في بلد نامٍ لا يدفع مواطنوه أية ضرائب لتمويل التأمين الصحي، وليس بالإمكان الاستمرار بتمويله من طريق خزانة الدولة العامة، فليس من الممكن حلها بالطريقة الكندية. فالتكاليف عالية جداً وستتصاعد، ولو بسبب تزايد الإصابة بأمراض مزمنة كسكر الدم وما يتبعه من أمراض أخرى.
ويظهر أن الحل القريب من «المقبول» وحتماً ليس «المرغوب» لو كانت الأمور بالتمني، هو خلق هيئة تشبه مصلحة التقاعد أو مصلحة التأمينات، بحيث يخصم من أجر أو راتب العاملين نسبة صغيرة يتم تخصيصها لدفع جزء من تكاليف التأمين. وتدفع الدولة الجزء المطلوب من بقية المواطنين غير العاملين أو منسوبي الضمان الاجتماعي لتمويل التأمين عليهم، مع استمرار الدولة بتقديم الخدمات التي تقدمها حالياً كخدمات طب المناعة وطب الوقاية والخدمات الصحية للحجاج والمعتمرين.
فتوفير خدمات صحية مقبولة بتكاليف معقولة بمنتهى التعقيد حتى في الدول الصناعية، وفي أميركا مثلاً التي توظف وسائل عدة لمحاولة إيجاد خدمة صحية بتكاليف يقدر على دفعها عامة الناس، لم يسلم نظامها من الفساد المالي حتى صار التأمين الصحي الحكومي الأميركي المرتفع التكاليف وما يكتنف تقديمه من فساد من الأسباب التي رفعت مستوى الدين الأميركي العام.
ومع ذلك كله فَيحسنُ الاستفادة من كفاءة القطاع الخاص بخفض التكاليف، مع ضوابط وإعانة مقننة، لتحمل جزء من تكاليف التأمين التجاري، الذي سيكون عالياً إذا تم منع القطاع التجاري من الانتقائية على أسس مرضية أو مكانية.
وخلاصة الموضوع فإن تقديم الخدمات الصحية التي تفي بالحد الأدنى من الجودة أمر بمنتهى التعقيد، والأرجح أن الحل، والذي لن يكون قريباً من الكمال، هو المشاركة بين الدولة والمواطن والمقيم وشركات التأمين التجاري، إذا تمّ منع شركات التأمين من «الانتقائية» وعدم رفع الأسعار إذا أصيب المؤمن عليه بمرض مكلف علاجه. وليس خافياً أن البنية التحتية لتقديم الخدمات الصحية لم تكتمل، لا بالنسبة إلى القطاع الخاص ولا بالنسبة للقطاع الحكومي، ما يزيد أمراً معقداً، حتى في أفضل الحالات في الدول المتقدمة، دعْ عنك الدول النامية، تعقيداً.


* أكاديمي سعودي

تعليقات