التأمين والحسابات الاكتوارية - د. عمار احمد عبدالله

د. عمار احمد عبدالله
تقوم فلسفة التأمين على مبدأ تفتيت المخاطر وتوزيعها على المستأمنين بهدف التخفيف من وقعها أو إزالتها عن المصابين، من خلال مجموع الأقساط التي تم تجميعها من هؤلاء المستأمنين. وبعبارة موجزة: تحميل مجموع المستأمنين الضرر الخاص الواقع على أحدهم.
فالمقصود من التأمين إذا هو دفع المخاطر ودرؤها، ولقد سلك الإنسان سبلا عديدة لمعالجة المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها –وهي كثيرة جدا تحيط بتصرفاته وأعماله- كمثل اجتناب المخاطر والابتعاد عنها كليا بالبعد عن النشاط الذي يمكن أن تنفذ من خلاله، وكنقلها إلى غيره من هيئات حكومية أو غير حكومية، وهو المعروف بنقل المخاطرة، وفي أحيان أخرى تحملها بتحمل الأضرار الناتجة عنها. لكن التأمين أضحى من أهم الوسائل المشاعة عالميا في التصدي للمخاطر، بل واقتحامها أيضا، وبفضل الدور الاقتصادي الذي يقوم به التأمين –وهو حماية الأنشطة الاقتصادية من المخاطر المحضة والتي تكون الخسارة كنتيجة حتمية ومنطقية لها-ازدادت هذه الأنشطة وتوسعت عما كانت عليه من قبل أضعافا كثيرة، ولم يقتصر الأمر على الأنشطة ذات المخاطر المتدنية بل ساعد في الدخول في مشاريع وأنشطة درجة المخاطرة فيها عالية، لاطمئنان المستأمنين على قدرة شركات التأمين في تعويضهم عن الخسارة التي يمكن أن تنجم عن هذه المخاطر، فالتأمين إذا يعمل على توفير الحماية الاقتصادية للمشروعات والأشخاص والممتلكات على حد سواء.


يعرف التأمين من الناحية الفنية بأنه: "مشروع جماعي لإحلال التأكد محل عدم التأكد عن طريق تجميع الأخطار" [التأمين الإسلامي لعبدالمطلب عبده، ص 5 نقلا عن الخطر والتأمين لرفيق يونس المصري، ص 33] ولبيان الكيفية التي يتم بها إحلال التأكد محل عدم التأكد والعلم محل عدم العلم أقول:
 إن الخطر في لغة علماء التأمين هو: "احتمال أن تكون النتيجة خلاف ما يتوقعه الفرد" [أصول الخطر للكاشف، ص ١١ نقلا عن الخطر والتأمين لرفيق المصري، ص ٩].
وفي تعريف آخر للجنة التي ألفتها جمعية علماء التأمين الأمريكية أنه: "عدم المعرفة الأكيدة بنتائج الأحداث"[نظام التأمين لمصطفى الزرقا، ص ١٠٣]

إن وجود الخطر في أمر ما يعني أن يكون لدينا احتمالان أو أكثر لا نستطيع الجزم بوقوع أحدهما، والنتيجة عدم اليقين بالحصول على النتيجة المطلوبة من بين عدة نتائج مختلفة.
فقولنا إن هناك خطرا في الدخول في أمر ما، يعني وقوع الضرر والخسارة في حال تحقق هذا الخطر. ومن هنا يفترق الخطر عن الخسارة في أن الخطر هو الشك وعدم اليقين بحصول الضرر، أما الخسارة فهي العلم المسبق بحصول النتيجة السلبية، والخسارة في لغة التأمين هي انحطاط قيمة أصل من الأصول بسبب غير متعمد. [التأمين التعاوني لمحمد علي القري]. فعلى سبيل المثال نرى أن شراء أصل رأسمالي لبيعه في المستقبل نوع من الدخول في مخاطرة، لاحتمال انخفاض قيمته السوقية، أما ما يحصل من انخفاض قيمته بسبب الاستعمال، فليس ثمة مخاطرة بل خسارة محضة.

وتجدر الإشارة إلى أنه ليس كل خطر قابل للتأمين عليه، فهناك الخطر التجاري المعتاد الذي لا ينفك عن أعمال التجارة، كارتفاع السلع وانخفاضها، وتغير أسعار العملات، وما شابه ذلك، فهذا النوع من الأخطار لا يقبل التأمين، لتعذر ضبطه والقياس عليه، وأما ما يقبل التأمين فهو الخطر المحض أو البحت (pure risk) وهو الذي يترتب على وقوعه ضرر وخسارة دون احتمال ربح أو منفعة، وهذا النوع لا يد للإنسان صاحب الشأن فيه، ومن أمثلته: خطر الحريق والسرقة والحوادث والمرض والموت وأشباهها. [نظام التأمين للزرقا، ص105، الخطر والتأمين للمصري، ص11]
إذا فليس كل ما يتعرض له الإنسان من المخاطر يقبل التأمين، ومن هنا اشترطوا للخطر الذي يكون قابلا للتأمين شروطا عديدة من أهمها:

١) أن يكون محضا كما مر، وهو الذي تكون نتيجته خسارة وضرر تلحق بالشخص المعرض للخطر.
 ٢) أن يكون خطرا حقيقيا، ويتعرض له عدد كبير من الناس.
 ٣) أن يكون قابلا للقياس، يسمح بتطبيق قانون الأعداد الكبيرة ونظرية الاحتمالات.
 ٤) أن يكون غير متعمد ولا يد للإنسان فيه. [نظام التأمين للزرقا، ص110، والتأمين التعاوني للقري].

هذا بالنسبة للخطر، أما كيفية تجميع المخاطر للوصول إلى نتائج شبه مؤكدة وغير احتمالية يمكن عن طريقها التنبؤ بمقدار الخسارة الناشئة عن مخاطرة ما، وبالتالي حساب قسط التأمين المطلوب لها فإن ذلك يتم عن طريق الحسابات الاكتوارية التي تعتمد على قانون الأعداد الكبيرة أو قانون المتوسطات (law up large numbers) في نظرية الاحتمالات من علم الرياضيات.

ويذكر الدكتور محمد علي القري أن اكتشاف هذا القانون يعود إلى عدة قرون مضت عندما لاحظ الرياضيون في القرن السابع عشر في أوروبا عند إعدادهم لقوائم الوفيات أن عدد الموتى من الذكور والإناث من كل بلد يميل إلى التساوي كلما زاد عدد المسجلين في القائمة. وقد أصبحت دراسة هذه الظاهرة جزءاً من علم الاحصاء عندما كتب عنها سيمون بواسان وسماها قانون الأعداد الكبيرة لما بدا له من انها تشبه نواميس الطبيعة.[التأمين التعاوني] ويذكر بعض الباحثين أن ماركوف (markov) (1856-1922) هو من ساهم في إيجاد نظرية الأعداد الكبيرة. [تطور علم الإحصاء بين النظرية والتطبيق، زياد رشاد الراوي] وأيا ما كان الأمر فإن هذا القانون أضحى هو الأساس الرياضي لحساب معدلات المخاطر المؤمن ضدها، وبالتالي حساب مقدار الأقساط الواجب دفعها.

وتعتمد الحسابات الاكتوارية على مجموعة من العلوم النظرية والتطبيقية كالرياضيات والإحصاء والاقتصاد وإدارة المخاطر والاستثمار والتمويل والتأمين، تؤلف من مجموع هذه العلوم مزيجا يمكن من خلاله الحصول على نتائج قريبة من الحقيقة لما يمكن أن يتحقق في المستقبل من مخاطر في الأموال والأشخاص.

وتقوم فكرة قانون الأعداد الكبيرة على إجراء التجارب والدراسات على أكبر عدد ممكن من الوحدات المعرضة للخطر، وقد وجد الباحثون أنه كلما ازداد عدد الوحدات الخاضعة للدراسة ازدادت نسبة وقوع الخطر، و استطاع الباحثون تحديد عدد الوحدات التي سيقع عليها الخطر إلى درجة قريبة من المؤكد.

إن هذه الوحدات في حالة الانفراد تتحرك فيما يبدو للناظرين حركة عشوائية توحي بأنها فوق مستوى التنبؤ بها، لكن انضمام هذه الوحدات إلى بعضها بعضا في سلسلة متوالية يساعد في التنبؤ بسلوكها المشترك بقدر قليل من الخطأ، والسبب في ذلك أن نسبة التغير في المجموع الكبير أكثر ثباتا منه في الأفراد، حتى يمكننا القول بأن هذه النسبة ثابتة وغير متغيرة بما يشبه نواميس الطبيعة.

ولتوضيح مبدأ عمل قانون الأعداد الكبيرة أضرب المثالين التاليين:
المثال الأول: إنه لمعرفة عدد الحوادث التي يمكن حدوثها في بلد ما، تجري عمليات التنبؤ على ملايين السائقين المتواجدين في هذا البلد، ومن خلال الرجوع إلى عدد الحوادث في السنوات الماضية نستخرج منه متوسط هذه الحوادث للحصول على عدد تقريبي من الحوادث المتوقعة لهذا العام. إنه من الصعب جدا القول أو التنبؤ بأن زيدا من الناس سيصطدم بعمرو مثلا، لأن ذلك في علم الغيب، لكن من الممكن جدا معرفة عدد السائقين الذين يتصادمون في شهر واحد أو سنة واحدة، إذا كان لدينا عدد كاف من السنوات نستطيع استخلاص المراد منها اعتماداً على قانون الأعداد الكبيرة.

المثال الثاني: لو أن شخصا ما أراد رمي الكرة في السلة، فإنه من الصعوبة بمكان حساب احتمالية وقوع الكرة في السلة في المرة الأولى، لكن مع تكرار رمي الكرة إلى السلة تسهل عملية الحساب، فكلما كان عدد الرميات كبيرا سهل علينا التنبؤ بعدد الإصابات ومعدل الإصابة في المرة الواحدة، فلو كان عدد الرميات 100 مرة، وعدد الإصابات 70 مرة، فإن احتمالية الإصابة في المرة الواحدة هي: 70/100=0.7

إنه بتطبيق قانون الأعداد الكبيرة يتحول عدم التأكد إلى تأكد، وعدم اليقين إلى يقين، وهذه هي الوظيفة الأساسية للتأمين كما عبرت عنها الموسوعة البريطانية، فقد ورد تحت كلمة (insurance) العبارة التالية: الوظيفة الأساسية لهذا التأمين هي إحلال اليقين محل الشك بشأن الخسارة الاقتصادية التي تحصل من الجوائح والأحداث الضارة التي تقع عرضا (أي بصورة عشوائية). ونتيجة التأمين هي أن الخسارة التي كانت ستقع على شخص بمفرده توزع بطريقة عادلة على أفراد مجموعة كبيرة تتعرض للخطر نفسه. [نظام التأمين للزرقا، ص111

تعليقات