مصباح كمال : الجامعات واحتياجات سوق العمل : حالة التأمين – حوار مع د. محمد الربيعي*

دأب أ. د. محمد الربيعي على الكتابة في قضايا التعليم الجامعي في العراق.  وهو في مقالته هذه يتابع قضية ربط التعليم الجامعي بحاجات سوق العمل في ظل التحولات التي تشهدها الاقتصادات الحديثة ومن بينها الاقتصاد العراقي.  واقتبس هنا ما يعنيني من الملاحظة التي أقدمها أدناه، وأعني ما ذُكر عن التأمين:
“إذا ما استندنا على نتائج ندوة المنظمة العربية للتنمية الإدارية المنعقدة بالقاهرة في شباط 2006 نرى إن الوظائف الأكثر طلبا في المستقبل هي وظائف مقدمي الخدمات الطبية ومساعدي الخدمات والعناية الطبية ومهندسي الحاسوب وأمن المعلومات والشبكات والتطبيقات، وموظفي البورصات والاستشارات المالية والتأمين، وموظفي وعمال المرافق العامة والخدمات الإدارية وقطاع الفندقة والسياحة والاستجمام والوجبات السريعة وأخصائيي خدمات التعليم.  فهل تعطي جامعاتنا أهمية رئيسية لتدريب هذه المهارات أو أنها لا زالت تؤكد على العلوم الأساسية من فيزياء وكيمياء ونبات وحيوان وفلك، وعلوم اجتماعية وتاريخية وجغرافية وأدبية وفلسفية.”[1]


تزايد مكانة قطاع الخدمات في الاقتصادات الحديثة أمر مُقرّ.  وبالنسبة للاقتصاد العراقي فإنه يحتل نسبة عالية.  ففي إحصائية سريعة كان توزيع العاملين حسب المهن كما يلي:
الزراعة 21.6%
الصناعة 18.7%
الخدمات 59.8% (تقديرات سنة 2008).[2]
لكن نوعية الخدمات ليست بالمستوى الذي نجده في الاقتصادات المتقدمة.  وهناك أسباب عديدة لذلك، منها الفساد الإداري والرشوة، والبيروقراطية،[3] وتكلس بعض القوانين، ويحتل ضعف التأهيل المدرسي والجامعي وهزال التدريب مكانة مهمة بين هذه الأسباب وغيرها.
إن التعليم والتدريب هو استثمار في رأس المال البشري، والعائد المتوقع من هذا الاستثمار هو الزيادة في انتاجية العاملين.[4]  هناك عنصران يدخلان في تكوين هذا الرأسمال هما: المواهب الطبيعية، ومجموعة المعارف والمهارات والتجارب والقدرة على العمل.  والنشاط التأميني، لكي يكون فعالاً وأداؤه كفؤاً، يحتاج إلى عنصري التعليم (بمستويات مختلفة) وأيضاً التدريب المهني.
نظرية رأس المال البشري تنظر لهذا الرأسمال على أنه امتداد لرأس المال العيني، وهو بهذا المعنى وسيلة إنتاجية، يتفاوت أصحابها (من العاملات والعاملين) في درجة امتلاكهم لمهارات ومعارف معينة تتعلق بأداء العمل المتخصص.  وينشأ التفاوت بسبب المؤسسات الاجتماعية التي ينشأ فيها العمال بدءً من العائلة ومروراً بالتعليم الابتدائي والإعدادي وانتهاء بالتعليم الجامعي والدراسات العليا.
ليست هناك أرقام دقيقة ومثبتة عن عدد العاملين والعاملات (للنساء حضور جيد في قطاع التأمين، وبعضهن يحتلن مواقع إدارية مهمة وخاصة في شركات التأمين العامة) في قطاع التأمين العراقي (الذي يضم شركات التأمين العامة والخاصة، ديوان التأمين العراقي، جمعية التأمين العراقية، المنتجين ووسطاء التأمين وبعض الاستشاريين).  وحسب المعلومات المتوفرة لدي فإن إجمالي العاملين هو أقلّ من ألفين موزعين في عموم العراق، بضمنه إقليم كوردستان، على أكثر من ثلاثين شركة تأمين.  وهذا العدد يشكل نسبة ضئيلة جداً ضمن تقديرات نفوس العراق لسنة 2014 التي تبلغ حسب الاحصائية التي أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء 36 مليون (وهو قريب من تخمينات صندوق النقد الدولي البالغة 35.9).[5]  كما أنه يشكل نسبة واطئة من قوة العمل البالغة 8,900,000 حسب التقديرات لسنة 2010[6] -أي ما يعادل 0.0225% تقريباً.
يتركز الاستخدام في قطاع التأمين في بغداد.  وأكبر مستخدمين هما الشركتين الحكوميتين: شركة التأمين الوطنية (720 موظف تقريباً) وشركة التأمين العراقية (350 موظف تقريباً).  مثل هذا العدد القليل من العاملين في قطاع التأمين يجعل من مسالة تدريب المهارات على المستوى الجامعي لأغراض تأهيلهم غير مجدي اقتصادياً.  وكان لقطاع التأمين العراقي تجربة ناجحة بهذا الخصوص في سبعينيات القرن الماضي عندما استحدثت في جامعة بغداد دراسة للدبلوم العالي في التأمين، لأمد محدود، أنتج طلابها عدداً من البحوث المهمة،[7] ونجح بعضٌ من أصحابها في تبوأ مواقع إدارية وفنية مهمة في قطاع التأمين داخل وخارج العراق.
لنقارن هذه الأرقام مع بلد كالجزائر، مثلاً، حيث يعمل ما يقرب من ثمانية آلاف شخص في التأمين،[8] أو الإمارات العربية المتحدة حيث يعمل 3,342 (2012)[9].  ومقارنة مع بلدان متقدمة حيث يصل العدد إلى 320,000 في المملكة المتحدة (2013)[10] وما يقرب من 2,500,000 في الولايات المتحدة (2012)[11] فإن الأرقام العراقية ضئيلة جداً.  ومن المناسب أن نتذكر بان هذه الأرقام الكبيرة في الدول المتقدمة تضم الاستخدام في شركات التأمين وإعادة التأمين، شركات وساطة التأمين وإعادة التأمين، ومخمني الخسائر، ووكلاء التأمين، والمنتجين من وكلاء البيع المباشر وآخرين.  كما أنه يجب النظر إليها بالمقارنة مع حجم السكان والاقتصاد وعراقة النشاط التأميني الداخل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والقائم على العقلانية في التعامل مع الحوادث والأخطار بعيداً عن دور الأرباب في هذه الدول.
قد لا تكون الجامعة هي المكان المناسب لإعداد الموظفين فنياً للعمل في قطاع التأمين.  ومع ذلك يلقى التأمين اهتماماً من الجامعات العراقية في الوقت الحاضر (كليات الإدارة والاقتصاد، والمعهد العالي للدراسات المحاسبية والمالية التابعة لجامعة بغداد) على مستوى البحوث والدراسات العليا.  وهي في ذلك، وعند غض النظر عن التفاصيل والفوارق، لا تختلف عن جامعات أخرى في العالم.  بعض الجامعات البريطانية تدرس مادة التأمين ضمن مقرراتها الدراسية للاقتصاد، وتدرس بعض الكليات مقررات التأهيل لعضوية المعهد القانوني للتأمين في بريطانيا (Chartered Insurance Institute)، والمعهد نفسه يقيم دورات تعليمية مستمرة وامتحانات لنيل شهادة التأهيل الأولي، وعضوية وزمالة المعهد (Associatship and Fellowship).  إضافة لذلك هناك الدورات التدريبية المستمرة التي تقيمها شركات التأمين وشركات وساطة التأمين وشركات متخصصة في التدريب (ومن المناسب أن نذكر بأن التدريب والتعلم المستمر (continuing professional development) يشترطها مراقب التأمين في المملكة المتحدة والقصور في أدائه يعرّض الشركة إلى عقوبة).
في العراق، تقوم جمعية شركات الـتأمين العراقية بعقد دورات تدريبية لإعداد العاملين الجدد للممارسة الفنية الصحيحة للعمل التأميني (لم تخضع هذه الدورات للتقييم، حسب علمي).  ولعل استعادة سياسة ابتعاث الموظفين العاملين إلى الخارج للاستفادة من فرص التدريب لدى شركات التأمين وإعادة التأمين الأجنبية ستساهم، كوسيلة إضافية، في رفع المستوى المهني لهم.  في السبعينيات كانت لشركة التأمين الوطنية (وقتها كان عدد موظفيها يقرب أو يزيد عن الألف) سياسة تدريبية لإعداد الكوادر لتسنم المهام الإدارية لشاغلي الصفوف الأولى عند مغادرتهم لها.[12]
في الوقت الذي يجري فيه التوجه المستمر، خاصة في البلدان المتقدمة، نحو حَرْفَنَة (professionalization) التأمين بهدف قصر العمل فيه على من هو مؤهل له، وهو توجه معروف في مهن أخرى كالطب والقضاء وغيره بحيث أصبحت هذه المهن مغلقة، فإن التأمين ما زال مهنة مفتوحة لمن يحمل مؤهلاً في أي فرع من فروع المعرفة.  لكن هذا لا يعني الاستهانة بالتدريب المستمر واكتساب المهارات والمعارف الجديدة.  وقد تدخلت أجهزة الرقابة على النشاط التأميني لتضمن حسن الاهتمام والأداء في هذا المجال.
تكمن أهمية مقالة الدكتور محمد الربيعي في ضرورة وضع سياسة للتعليم المدرسي والجامعي والمهني وربط تلك السياسة بحاجات الاقتصاد القائمة والناشئة، ونهوض ما صار يعرف باقتصاد المعرفة الذي يعتمد على أصول غير عينية (رأس المال الفكري للعاملين) وليس فقط المدخلات العينية.  فله كل الشكر على إعادة فتح دراسة هذا الموضوع القديم/الجديد.  وآمل أن تنال مقالته اهتمام الاقتصاديين.


*) د. محمد الربيعي: “الجامعات العراقية واحتياجات سوق العمل” المنشورة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، 25 حزيران 2014
حقوق النشر محفوظة لشبكة الإقتصاديين العراقيين – 1 تموز 2014
يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر
الاراء الواردة في كل المواد المنشورة على الموقع لاتعكس وجهة نظر هيئة التحرير وانما كاتبها الذي يتحمل المسؤولية القانونية والعلمية لوحده


[1] رابط مقالة د. محمد الربيعي:
[3] طارق الهيمص، كتابنا وكتابكم: شعار البيروقراطية العراقية (التكوين، د.ت.)
[4] د. مدحت القريشي، اقتصاديات العمل (عمان، دار وائل للنشر، ط 1، 2007)، الفصل الثامن: الاستثمار في رأس المال البشري، ص 167-182.
Theodore W. Schultz “Human Capital: Policy Issues and Research Opportunities”http://www.nber.org/chapters/c4126 Chapter in NBER book Economic Research: Retrospect and Prospect Vol 6: Human Resources (1972)
[5] MEED, Middle East Economic Review 2014, p 61.
Source: CIA World Factbook and other sources.  Page last updated on January 28, 2014.
[7] راجع الدراسة المهمة للمرحوم مروان هاشم القصاب “الدراسة الأكاديمية للتأمين في العراق”، في كتابه مقالات في التأمين وإعادة التأمين في العراق (مكتبة التأمين العراقي: طبعة إلكترونية، 2011، 2014، تحرير: مصباح كمال)، ص 26-40.
[8] معلومات شخصية من أحد العاملين في سوق التأمين الجزائري (أيار 2014).
[9]هيئة التأمين، دولة الإمارات العربية المتحدة:
[11] http://www.careerinfonet.org/industry/ind_employment_data.aspx?nodeid=50.  Source: US Bureau of Labor Statistics (BLS).
[12] أشرت إلى هذه السياسة في مقالة لي، لم تنشر بعد، بعنوان “الأستاذ عبد الباقي رضا: تقييم دور القائد الإداري في مؤسسة تابعة للقطاع العام”.  كان الأستاذ عبد الباقي رضا مديراً عاماً لشركة التأمين الوطنية في الفترة من 1 شباط 1966 لغاية 4 آذار 1978.

تعليقات