التأمين التكافلي بين التصور الفقهي والواقع العملي - بقلم / محمد نعيجة

إن التأمين التكافلي الذي أسست بموجبه شركات التأمين التكافلي هو مجال اختصاص جديد وممارسة مستجدة شأنه في ذلك شأن المعاملات الاقتصادية المعاصرة عموما وهذه السمة من تلازم التغير والتجدد مع طبيعة العمل الاقتصادي لا تحول إطلاقا دون ضرورة البحث عن تأصيل فقهي لكل معاملة مستجدة.

وتعتبر المبادئ التي يتأسس عليها فقه المعاملات الأساس الذي يعتمد عليه فقهاء العصر في الحكم على المعاملات المستحدثة بالإضافة إلى ما يمكن استنباطه من أحكام على ضوء الأدلة الشرعية بما يؤول إلى تكييف شرعي للمعاملة المطروحة للدرس ومن ثم الحكم بحلها أو بحرمتها.


ولا يقتصر دور الفقهاء في ذلك على إضفاء الحكم الشرعي على المعاملات الجارية بل يتخطاه في اتجاه تقديم تصور شرعي للبديل متى كان ذلك متاح شرعا.
ولا شك أن هذا التمشي يبرهن بقوة على سعة الفكر الإسلامي عموما وفقه المعاملات خصوصا في استيعاب ما يطرأ من معاملات مستحدثة ويكرس خصوصيات الاقتصاد الإسلامي من خلال قدرته على الجمع بين الثبات والمرونة وانتهاج الواقعية في التعاطي مع الواقع العملي بما يتفق مع حاجات الناس ومشكلاتهم.
وقد كان لقرارت المجامع الفقهية دور كبير في إيجاد البديل الشرعي في عدة مجالات من مجالات النشاط الاقتصادي، ونفض الغبار على مخزون من الكتابات والمراجع الأصيلة في مجال فقه المعاملات ففي مجال النشاط البنكي مثلا تم استبعاد أسلوب الاعتماد على القرض الربوي كوسيلة للاستثمار بناء على حرمته مع التوصية باعتماد عقود بديلة كالقراض أو المضاربة وعقد الاستصناع والمرابحة وغيرها من العقود الشرعية التي يصح استثمار أموال المودعين بواسطتها.
وفي نفس السياق وبعد أن استقر الرأي على تحريم السندات ذات الفائدة الربوية تم إقرار صيغة صكوك المقارضة كأداة استثمارية بديلة عنها.
وعلى نفس هذا التمشي المنهجي نسج مجمع الفقه الإسلامي لرابطة علماء المسلمين في قراره المؤرخ في 10 شعبان 1398 هجري والذي تناول فيه موضوع التأمين.
حيث كانت منهجية القرار المذكور واضحة في اعتماد تمش تدريجي يقضي تباعا:

1-    بدراسة عقد التأمين التجاري من الناحية الشرعية،
2-    مناقشة أدلة المبيحين للتأمين التجاري من خلال قياسه على بعض التصرفات والعقود الجائزة والرد عليها،
3-    الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية المؤرخ في 04-04-1397 من جواز التأمين التعاوني بديلا عن التأمين التجاري،
4-    تقديم الأدلة على جواز التأمين التعاوني.

وما يهمنا هنا تحديدا هو ما انتهى إليه القرار في مسألة الأدلة على جواز التأمين التعاوني أو التكافلي حيث جاء في الدليل الأول “أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية، عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم بالتعاون على تحمل الضرر”.
وقد يستغرب المرء من القول بأن عقد التأمين التكافلي هو عقد تبرع على اعتبار أن طالب التأمين يأمل عند التعاقد مع الشركة الحصول على مقابل وهو التعويض ولولا رجاؤه الحصول على ذلك المقابل في صورة التعرض للخطر المؤمن من أجله لما قبل أصلا اللجوء إلى التأمين.
إنه ينبغي في نظرنا الوقوف على معنى التبرع المقصود في عقود التأمين التكافلي حتى يستساغ القول بانطباق مفهوم التبرع على عقد التأمين التكافلي.
جرت تصنيفات العقود من قبل الفقهاء وشراح القانون على تقسيم العقود من حيث التزامات الأطراف فيها إلى عقود معاوضات وعقود تبرعات، فعقد المعاوضة هو العقد الذي يأخذ فيه كل من المتعاقدين مقابلا لما يعطيه. فكل منهما يبحث عن مصلحة معينة يسعى للحصول عليها بإبرامه للعقد.
أما عقد التبرع فهو الذي لا يأخذ فيه المتعاقد مقابلا لما يعطيه، ولا يعطي فيه المتعاقد الأخر مقابلا لما يأخذه. فهو عقد يتم في غياب تقابل عوضين.
غير أن التبرع في مفهوم التأمين التكافلي ليس تبرعا محضا تكون فيه للمتبرع الحرية المطلقة في التبرع إن شاء تبرع وإن شاء امتنع بل هو تبرع إلزامي منظم ولا يتعارض ذلك مع طبيعة التبرع اعتبارا إلى أن المعاملات بين الناس تقتضي جدية التعامل والالتزام ولو كانت تلك المعاملات منضوية تحت معاني الإحسان والمعروف.
وهذا المعنى أصله فقهاء المالكية من خلال قاعدة التزام التبرعات ومؤداها أن من التزم معروفا لزمه.
ويرى المالكية في هذا الصدد أن كل التزام فردي بهبة أو صدقة أو حُبس أو جائزة أو قرض على وجه الصلة وطلب البر والمكافأة وما أشبه ذلك من الوجوه المعروفة بين الناس في احتسابهم أو حسن معاشرتهم لازم لصاحبه لا يقبل منه الرجوع عنه ولصاحب الحق فيه أن يخاصمه فيه أمام القضاء فيقضي عليه به، وقد جاء في كلام ابن رشد أن “المعروف على مذهب مالك وأصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يمت أو يفلس، كما ورد عن ابن القيم أن “للمقاصد والنيات تأثير في صحة العقد ومن ثم يجب اعتبارها”.
وقال مالك في هذا الباب: “إن الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول ويجبر فيها على القبض كالبيع”.
وقد تبنى المشرع التونسي هذه القاعدة في الفصل 49 من مجلة الأحوال الشخصية في باب النفقة عندما اعتبر أن من التزم بنفقة الغير لزمه ما التزمه.
ونشير في ذات السياق أن عدد من الآراء الفقهية ذهب إلى تكييف طبيعة الأقساط المدفوعة من المشتركين في حساب التأمين على أنها هبة بعوض مستندين في ذلك إلى قول جماهير العلماء بان اشتراط العوض في الهبة جائز وإلى مبدأ أن “الأصل في العقود اللزوم” و”مبدأ وجوب الوفاء بالعقود ” لقول النبي صلى الله عليه وسلم “لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده”.

وقد تبنى المشرع التونسي مفهوم الهبة بعوض ضمن أحكام الفصل 200 من مجلة الأحوال الشخصية «يجوز للواهب دون ان يتجرد عن نية التبرع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزام معين وتسمى هبة عوض
وكل هذه التصرفات والالتزامات بما تفرضه من جدية في التعامل لا تحيد بالعقد أو التصرف عن طبيعته كعقد تبرع أو هبة، ويبقى أن نبين كيف أن عقد التأمين التكافلي يدخل فيما يسمى عقود التبرعات.
إن الالتزام بالتبرع هو ذلك المبلغ الذي يساهم به كل مشترك في التأمين التكافلي للوفاء بالتزامات المساعدة المتبادلة ودفع التعويضات المطالب بها من المشتركين المتضررين. ولذلك فإن مفهوم التكافل والمواساة التعاونية هو مبدأ أساسي في عملية التأمين التكافلي حيث يتفق المشتركون أن يعوض بعضهم بعضا بصفة تكافلية عن خسائر معينة. وبما أن التأمين التكافلي ينظر إليه على أنه شكل من أشكال التأمين المشترك أو التعاوني فإن الهدف الأولي في التأمين التكافلي ليس الربح وإنما المواساة التعاونية المشتركة.

وتتأصل معالم التعاون أكثر في التأمين التكافلي في مسألة نقل الخطر، ففي التأمين التقليدي وبمجرد دفع المشترك لقسط التأمين ينتقل الخطر كليا إلى شركة التأمين وتتعهد الشركة عند حصول الخطر واستحقاق التعويض بخلاص المشترك من أموالها بينما يبقى الخطر في التأمين التكافلي محمولا على حساب المشتركين ولا ينتقل إلى الذمة المالية لمؤسسة التأمين التكافلي.
ولذلك فإن من أهم مبادئ التأمين التكافلي الفصل بين حساب المشتركين وحساب المساهمين، فلكل من الحسابين موارده الخاصة ويتحمل ما يخصه من مصاريف ونفقات وفق ما تقتضيه القوانين والمعايير المحاسبية وتوجيهات هيئة الرقابة الشرعية.
فمؤسسة التأمين التكافلي لا تتسلم أقساط التأمين من المشتركين على وجه التملك وإنما على وجه الحافظ المؤتمن بما يكون معه وجه التصرف من قبلها في تلك الأموال عقد وكالة بأجر تنوب من خلاله مؤسسة التأمين مجموع المشتركين في التصرف في حسابهم والقيام بكل ما تفرضه عمليات التأمين من استخلاص للأقساط وتنزيلها بحساب المشتركين ودفع للتعويضات من ذلك الحساب وغير ذلك من العمليات التي تنضوي بحكم طبيعتها في نشاط التأمين.

وبهذا المعنى فإن النتيجة المالية لحساب المشتركين يغنمها أو يغرمها المشتركون، فإذا كان الحساب قد أنتج فائضا فإن ملكية الفائض تعود للمشتركين وإذا كان الحساب قد أفرز عجزا فإن المشتركون هم من يتحملون تبعاته، وقد جرت تطبيقات العمل في شركات التأمين التكافلي على أن يتولى المساهمون أي أصحاب رأس المال في مؤسسة التأمين التكافلي إقراض حساب المشتركين قرضا حسنا لسد ذلك العجز على أن يقع استرداده من فائض هذا الحساب في السنوات اللاحقة.

ويستتبع هذا التصور قيام علاقة تكافلية بين مجموع المستأمنين طالما أنهم أصحاب الحق في حساب المشتركين وطالما كانوا شركاء في نتيجة الحساب بصورة تجعل استحقاق المتضرر منهم للتعويض في صورة وقوع الخطر مستمد بالأساس من صفته كشريك في الحساب، فكل مؤمن له هو في النهاية متبرع ومتبرع له.

ويستخلص من ذلك أن التأمين التكافلي هو عبارة عن عقد جماعي يتم تنفيذه وكالة عن المستأمنين فجميع المستأمنين يجمعهم عقد التأمين التكافلي بحيث يكون لكل منهم صفة المؤمن لغيره والمؤمن له، فهو مؤمن له لأنه باشتراكه في التأمين أخذ صفة المستفيد فاكتسب بذلك حق الحصول على التعويض في صورة استحقاقه وهو أيضا مؤمن لغيره من خلال الأقساط التي يدفعها كمشترك في الحساب فالمال الذي يدفع كتعويض لغيره عند وقوع الخطر له فيه صفة الشريك فهو يساهم بجزء من ماله في تلك التعويضات على سبيل التبرع.
وتفرض القوانين المنظمة للتأمين التكافلي وتعليمات هيئة الرقابة الشرعية أن تكون كل هذه المبادئ الرئيسية مضمنة بالعقود المتعامل بها مع المشتركين ضمانا لشفافية العلاقة وتكريسا لوضوحها.

ومن أدق ما ذهب إليه الفقهاء في هذا الباب تأصيلا للتصور النظري للتأمين التكافلي حديث الأشعريين على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أنهم ضربوا نموذجا رائعا في التكافل وقت النوازل والأزمات صاروا به مضرب الأمثال فيما فعلوه عند نزول الحاجة بهم، فلم يكن تكافلهم من جنس ما عهده الناس، بل تعدوه إلى اقتسام كل ما يملكون بالسوية.
فعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ” إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم “. (رواه الإمام البخاري في صحيحه).
وفي هذا الحديث فإن تبرع الأشعريين بما يملكون من زاد لبعضهم البعض لم يكن القصد منه سوى التعاون فلم يكن لأحدهم نية في نيل نصيب أكبر مما تبرع به، ولكن هذا التبرع لم يكن مجردا من طلب المقابل حيث حرص كل واحد على نيل نصيب من الزاد.
وتنزيلا لهذا الحديث على مفهوم التأمين التكافلي فإن المشترك في حساب التأمين لا يقصد جني ربح بقبوله الانخراط الملزم في ذلك الحساب بل أنه يرمي إلى التكافل مع غيره من المشتركين في جبر الضرر الذي قد يلحق أحدهم.

الكاتب: محمد نعيجة مسؤول بشركة : تأمينات التكافلية

تعليقات