عقود التأمين في لبنان ما تزال إذعانية غير قابلة للبحث والنقاش... فمن يحمي المتعاقدين والمؤمّنين من وحشية رأسمالية شركات التأمين

تعاني شريحة كبيرة من اللبنانيين غير العاملين في القطاع العام من معضلة كبيرة لجهة عدم توفر جهات رسمية تؤمن غطاء الاستشفاء لهم أسوة بغيرهم من المضمونين التابعين لمؤسسات وشركات رسمية وخاصة ضامنة. في حين يلجأ البعض من الميسورين الى توقيع عقود تأمين للاستشفاء وغيرها مع شركات تأمين خاصة غالباً ترتّب عليه دفع مبالغ مالية هائلة سنوياً، في وقت لا تشمل تقديماتها وعروضها كل قطاعات الاستشفاء. فيقع المتعاقد في فخوخ ومصائد ومشاكل ونزاعات كثيراً ما تنشأ بينه وبين شركات التأمين الخاصة.
حاورت "البيان" كلاً من المحامي كوستي عيسى (عضو في نقابة المحامين)، والمحامية كلودين الراسي، حول موضوع عقود التأمين، طارحة الصوت عالياً ومتسائلة: "من يحمي المتعاقد والمؤمّن من جشع شركات التأمين؟".


عقد التأمن ما يزال في لبنان عقد إذعان
ينطلق المحامي كوستي عيسى في حديثه معنا قائلاً: "ما يزال عقد الضمان أي التأمين عقد إذعان. ومعنى ذلك ان شركة التأمين أو الهيئة الضامنة تعرض عقد التأمين على من يريد التعاقد معها دون ان يكون لديه أي حق في تعديل أي بند من بنوده. فعليه أن يوقّع على العقد كما جاء ودون أي تغيير. حتى الآن ليس لدينا القدرة على مناقشة إن كان هناك أي توازن بين حقوق الموقِّع وواجبات الجهة الضامنة. لهذا يُعرض عقد التأمين كما هو وعلى أساسه تتم الموافقة أو عدمها. لذلك يسمّى في القانون عقد إذعان، والعقد، كما هو معروف، شريعة المتعاقدين. ومن هنا، لا تتدخل الدولة في تلك العقود انطلاقاً من مبدأ "دعه يعمل دعه يمر". وينحصر دور الدولة في إعطاء المراسيم التنظيمية الأساسية لتلك العقود، لكنها لا تتدخل في التفاصيل."
خطوة تحتاج الى تطوير
ويضيف: "لهذا إن أي نزاع يقوم جراء عقد التأمين والمؤمّن يذهب الى المحاكم العدلية. وللأسف هناك دعاوى تطول لسنوات. لهذا أقدمت الدولة على خطوة لتسهيل الحكم بالنزاعات الناتجة عن عقد التأمين، فأنشأت هيئة قضائية جديدة لكنها ليست بمحكمة، بل تُعرف بمجلس الضمان التحكيمي، وهو هيئة قضائية ذات صفة خاصة يرأسها قاضٍ ومعه ممثل عن شركات التأمين. يتألف هذا المجلس من غرفتين أو هيئتين. تتمحور صلاحية الهيئة الأولى بحل النزاعات المتعلقة بحوادث السير (صدم، أضرار، وفاة...). بينما مهمات الهيئة الثانية تنحصر في البت بكل المشاكل المتعلقة بعقود الاستشفاء. إن صلاحية هذا المجلس كمية، أي أن هناك مبلغاً محدداً تستطيع ان تنظر فيه. الحد الأقصى المسموح لهذا المجلس بأن يتدخل فيه هو مبلغ 75 مليون ليرة لبنانية. وطبعاً، يبقى هذا الأمر غير كافٍ."

توسيع صلاحية مجلس الضمان التحكيمي
أما حول ما يمكن ان تكون الحلول الناجعة في هذا الموضوع، فيجيب المحامي كوستي عيسى: "الحل يكون برفع سقف المبلغ كما عمد إليه عدد كبير من الدول الأخرى. ومن أجل أن نطور عمل المجلس التحكيمي، علينا رفع الصلاحية الكمية له من 75 مليون الى 350 مليون ليرة. لكن في الوقت الحاضر، تبقى الدولة غير قادرة على التدخل في نصوص عقود التأمين، إلا في حال كانت هذه العقود مخلة بالآداب العامة أو مخالفة للأحكام والعقود ذات الصفة الإلزامية. لكن يبقى السؤال المطروح: "من يحمي المتعاقدين من شركات التأمين التي تفرض شروطها، بينما يدفع المتعاقد معها مبالغ هائلة سنوياً، دون الاستفادة الفعلية، خاصة في حالات الاستشفاء؟ إن هذا الموضوع يحتاج الى تشريع. وحتى اللحظة ما تزال النصوص القانونية في هذا المجال ضعيفة، وتترك الحرية لفريقي العقد ان ينظما علاقتهما القانونية فيما بينهما. من هنا، نقول إن الرأسمالية المتوحشة تحتاج الى قيود. فشركات التأمين ذات رؤوس الأموال الكبيرة تملي العقود حسب مصالحها المالية. لهذا فإن الشخص المتعاقد هو الطرف الأضعف في هذه الحلقة، وتبقى الواجبات والحقوق غير متوازنة لغاية هذا التاريخ في عقود التأمين. من هنا، فإن المطلوب هو توسيع صلاحية مجلس الضمان التحكيمي. أما الخطوة الثانية فهي في تعديل مدة مرور الزمن. إن مرور الزمن في لبنان بالأمور المدنية هي عشر سنوات. أما في مجلس الضمان التحكيمي فمدة مرور الزمن هي سنتان. لهذا من الضروري تمديد المدة وتوسيعها الى عشر سنوات كأي موضوع مدني آخر."
ويختم: "من ليس لديه أي ضمان رسمي (تعاونية، ضمان اجتماعي، جيش أو قوى أمن) يلجأ الى عقود التأمين مع الشركات الخاصة. لهذا أصبح من الواجب تنظيم ورشة عمل، إنطلاقاً من المجتمع المدني وصولاً الى أعلى هيئة رسمية في لبنان، لاقتراح مشاريع تعديل صلاحية مجلس الضمان التحكيمي، وتأمين نصوص قانونية تحد من وحشية الرأسمالية وشركات التأمين بإقرار العقود وتنظيمها، بحيث يمكننا الوصول الى توازن عادل بين شركات التأمين والمتعاقدين. لقد حاولت الدولة طرح فكرة البطاقة الصحية، خاصة لمن ليس موظفاً في القطاع العام، لكنها بقيت خطوة غير جادة".

أصول تطبيق قوانين قطاع التأمين ما تزال مجهولة
من جهتها، ترى المحامية كلودين الراسي "أن قطاع التأمين قد احتل أهمية كبرى في لبنان، ولكن ظلّت مفاهيمه وأصول تطبيق قوانينه مجهولة وغائبة عن قسم كبير من اللبنانيين، وهذا ما يجعل علاقة الضامن والمضمون علاقة يسودها الغموض تبعاً لجهل المواطنين بالثقافة في مجال التأمين. وقد راعت القوانين اللبنانية أصول التأمين ونطاق تطبيق شروطه في كافة المجالات، ومنها قانون الموجبات والعقود، وقانون التجارة البحرية، وقانون طوارئ العمل، وقانون الضمان الاجتماعي، وقانون السير، وقانون هيئات الضمان، وقانون تنظيم قطاع التأمين والمرسوم الاشتراعي رقم 105/1977 ومرسومه التطبيقي رقم 2180/2009 المتعلقان بالضمان الإلزامي للمسؤولية المدنية عن الأضرار الجسدية التي تسببها المركبة البرية للغير."
نصوص عقود التأمين غير قابلة للنقاش
وتتابع: "ومفهوم عقد التأمين في قانون الموجبات والعقود هو أنه عقدٌ بمقتضاه يلتزم شخص بعض الموجبات عند نزول بعض الطوارئ بشخص المضمون أو بأمواله، مقابل دفع بدل يسمى القسط أو الفريضة. وبمفهوم قانون التجارة البحرية فهو عقد يرضى بمقتضاه الضامن بتعويض المضمون من الضرر اللاحق به في معرض رحلة بحرية عن هلاك حقيقي لقيمة ما، مقابل دفع قسط، على أن لا يتجاوز هذا التعويض قيمة الأشياء الهالكة. إلا أن عقد التأمين يعتبر من عقود الإذعان، لأن المؤمّن له يذعن لما يضعه المؤمِّن من شروط تتعلق بالقسط والموجبات والبيانات والمستندات ضمن نموذج معد ومطبوع مسبقًا لا مجال للنقاش أو التفاوض بشأنه، فلا يكون أمام المؤمّن له سوى الموافقة أو الرفض، سنداً لقانون الموجبات والعقود. فإذا التزم المواطن بعقد تأمين، فيكون ذلك على مختلف الأنواع التي تتعاطى بها شركات التأمن المرخّصة في لبنان، ومنها التأمين على الحياة، النقل، الحرائق والحوادث، بما فيها الإستشفاء بأنواعه كافة. وهنا يعود للمؤمّن له أن يلتزم بالإدلاء بكافة البيانات المتعلقة بالخطر (حريق أو تلف أو غرق أو حادث أو وفاة أو مرض أو مسؤولية أو غيرها)، كما يجب عليه تعيين ما يتعلق به هذا الخطر (المنزل المؤمّن عليه أو البضاعة أو الشخص أو المزروعات أو الطائرة أو السفينة أو غيرها)، وكذلك يجب تعيين النشاط المؤمّن عليه من المسؤولية، وإلا يعتبر الإخلال بهذا الموجب سبباً من أسباب إبطال عقد التأمين إذا أثبت المؤمن وقوعه في خطأ جوهري أو خداع أو كتمان إرتكبه المؤمن له."

غياب تام للتوعية في آلية تطبيق عقود التأمين
وتضيف: "وما يجهله المواطن هو إلتزامه بإعلام المؤمِّن بكل طارئ يودي إلى إلقاء المسؤولية عليه في مهل محددة تحت طائلة مرور الزمن على مطالبة شركات التأمين ومسؤوليته تجاه هذه الأخيرة، بحيث يحق لها المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصابها نتيجة عدم إعلامه بالطارئ أو التأخير في ذلك، الأمر الذي يحتم على المواطن اللبناني السعي إلى معرفة آلية تطبيق عقود التأمين في غياب التوعية حول هذا الموضوع. وغالباً ما ينتج عن ذلك دعاوى بين الفريقين يكون فيها طرف غير راضٍ، ويجعل من شركات التأمين الطرف القوي أمام طرف يطلب الحماية القانونية والمالية. ويعود كل ذلك إلى عدم إطلاعه على شروط وبنود عقد التأمين، فيُفاجأ عند وقوع الحادث بالاجراءات التي تتّخذها الشركة."
لكن يبقى في النهاية سؤال يطرح على مسامع كل المسؤولين: "من يحمي المتعاقدين من جشع رأسمالية شركات التأمين في ظل غياب تام لأي برنامج استشفائي بديل وعادل مقدم من قبل الدولة اللبنانية لكافة أبنائها على حد سواء، يضمن لهم استشفاء متكاملاً أسوة بكل الدول الأخرى؟

تقرير : كارينا أبو نعيم

تعليقات