عودة للادخار والاستفادة من تراكم رأس المال - زكريا فكري

بدأ الناس يهتمون بالمسائل الاقتصادية بشكل لافت بعد احداث الازمة المالية العالمية في عام 2008، عندما ادركوا ان القرارات الاقتصادية التي تتخذ في بلد ما يمكن أن تؤثر جذريا على اقتصادات بلدان أخرى من العالم.. ذلك العالم الذي لم يعد فيه مكان للقرارات غير المدروسة او التعامل بردود الافعال في شؤون المال والائتمان. واذا كان الاقتصاد العالمي قائما على التصنيف والانتاج وفقا لنظريات الاقتصاديين الكبار في العالم الا ان الإسكتلندي آدم سميث -والملقب بـ (أبو الاقتصاد الحديث)- هو اول من وضع للعالم نظريته الكلاسيكية في الاقتصاد والتي ما زالت مطبقة حتى اليوم. حيث يرى سميث أن ثروة كل أمة تقاس بقدرتها الإنتاجية، وأن هناك علاقة جوهرية بين النظريات الاقتصادية حول تقسيم العمل والسوق والنقد وطبيعة الثراء وسعر البضائع والأجور والأرباح وتراكم رأس المال.
ويوضح سميث من خلال كتابه “ثروة الأمم”- نشر عام 1776- ان المجتمع القائم على المصلحة الشخصية هو مجتمع يمكن أن يستقر ويبقَى.. وربما تكون هناك بعض الملاحظات او التحديثات التي دخلت على نظرية سميث عند التطبيق على مدار السنوات او العقود الماضية غير ان الشيء الوحيد الذي تنبأ به سميث وحذر منه وابدى مخاوفه اتجاهه كان هو التحذير من مخاطر الارتهان الذي قد يسببه تقسيم العمل..


وهذا ما حدث بالفعل في عام 2008 عندما توقف محدودو الدخل عن دفع أقساط رهن منازلهم بعد أن أرهقتهم الأقساط المتزايدة. مما اضطر الشركات والبنوك إلى محاولة بيع المنازل لحل النزاع، فاحتج أصحاب المنازل المرهونة ورفضوا الخروج منها مما دفع بقيمة العقار إلى الهبوط، ثم ما لبث بعد أن اكتشف أن قيمة الرهن المدفوعة لم تعد تغطي تأمينات البنوك ولا شركات العقار ولا التأمين. مما أثر بدوره على سندات المستثمرين الدوليين فطالبوا بحقوقهم عند شركات التأمين فأعلنت أكبر شركة تأمين في العالم وهي “ايه آي جي” عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها اتجاه 64 مليون زبون. مما دفع النظام الاحتياطي الفيدرالي الامريكي إلى منحها مساعدة بقيمة 85 مليار دولار مقابل امتلاك 79.9% من رأس مالها. ولحقها كثير من البنوك الأمريكية مثل مورجان ستانلي وجولدمن ساكس ليضطرب العالم كله وتتوالى خسائر العديد من البنوك والشركات وتعلن افلاسها. تلك هي تخوفات ادم سميث التي حذر منها منذ القرن الثامن عشر.

والحقيقة ان ارتفاع سقف القروض ونسبتها في أي بلد قد يكون في اطار نظام نقدي هدفه التدوير ودفع عجلة التنمية انطلاقا من تغليب المصلحة الشخصية للفرد والتي في مجملها تشكل المصلحة العامة، غير ان الاقراض غير المنضبط والذي يتجه الى نواح استهلاكية اكثر منها تنموية قد يؤدي الى مشاكل على المدى البعيد ويحمل الافراد تبعات تذهب بالمجتمع بعيدا كما هو الحال في ازمة الارتهان. لذلك يظل الرهان كل مرة على الادخار وليس الانفاق حتى يصبح الفرد داعما حقيقيا للتنمية والانتاج في بلاده.
اما اذا تحدثنا عن تراكم رأس المال وارتفاع معدلات السيولة وما يتطلبه ذلك من تدوير لعجلة الاقتصاد القائم على المنفعة التي يجب ان يتلمسها الافراد او الاشخاص بشكل مباشر ولا تصب فقط في اتجاه القمة وحدها، فان ذلك يتطلب التفكير في ايجاد بدائل تضمن التدوير الجيد لرأس المال المتراكم بحيث تستفيد المصارف والمؤسسات المالية ويستفيد الفرد على نحو لا تترتب عليه ازمات تحول دون وفائه بالتزاماته المالية. وفي الوقت نفسه- وكما يرى الاقتصاديون – يمكن حساب معامل قوة الاقتصاد الذي يتحدد أولا واخيرا من معدلات دخل الفرد في هذا البلد. فرغم تعدد معايير الحكم على الرفاه أو قوة الاقتصاد في اي بلد الا ان معيار دخل الفرد يظل هو المقياس الذي يحكم به على قوة الاقتصاد في اي بلد بالعالم.
ويرى الدكتور يوسف اليوسف في كتابه “لغز النمو الاقتصادي” ان تجارب التاريخ البعيد والقريب تشير الى ان هناك دولا كانت غنية في يوم من الأيام ثم اصبحت فقيرة وهناك دول كانت فقيرة ثم ارتقت الى مصاف الأمم الغنية او انها تحررت من قبضة الفقر كحد ادنى. ويركز اليوسف على معيار الدخل كمقياس على الرفاه وقوة الاقتصاد ويرى ان التراكم الرأسمالي أي زيادة المخزون المادي والبشري لدى أي مجتمع تكون بدايته اقتطاع هذا المجتمع جزءا من دخله في مرحلة ما وادخاره أي عدم استهلاكه ومن ثم تحويل هذه المدخرات الى وجوه استثمارية منها تعليم الإنسان وتحويله الى عامل منتج ومنها صناعة الأدوات والمعدات التي تساعده على زيادة انتاجه. وكلما زاد معدل النمو السكاني كلما اصبحت هناك حاجة اكبر لزيادة المدخرات لتوفير التعليم وادوات الانتاج لهؤلاء الأفراد الجدد. كذلك فان المدخرات تعتبر ضرورية لتجديد وصيانة رأس المال الحالي. فكثير من مشروعات البنية الأساسية كالمدارس والمستشفيات والمطارات والموانئ والمصافي تحتاج الى نفقات صيانة مستمرة والا فان قدرتها الإنتاجية (عدد الطلبة والمرضى والمسافرين والسفن وغيرها من المخرجات) تبدأ في التراجع مما يعني ان حجم ما ينتجه المجتمع أي ناتجة المحلي يبدأ في الانكماش وهذا يعني ان نمو المجتمع يصبح سالبا. اذن لتحريك عجلة النمو الاقتصادي يحتاج أي مجتمع لأن يدخر جزءا من دخله السنوي ويحوله الى استثمارات في زيادة رأسماله البشري والمادي وهذا يؤدي بدوره الى توسيع الطاقة الانتاجية لهذا المجتمع أي انه يصبح قادرا على انتاج كمية أكبر من السلع والخدمات في السنة الواحدة (الناتج المحلي الأجمالي) وهذه الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي هو ما يسمى بالنمو الاقتصادي. ولا شك ان معدل النمو الاقتصادي الناتج عن التراكم الرأسمالي يعتمد بالدرجة الأولى على كفاءة الاستثمارات التي وجهت اليها المدخرات.

تعليقات