الضمان الاجتماعي .. نظم للتكافل بين الدول ومواطنيها -د. محمد رياض حمزة

تُصَنَّف دول العالم في مؤشر الرعاية الانسانية بمدى الاهتمام الذي توليه كل دولة لشريحتين في المجتمع وهما «الأمومة والطفولة» و»كبار السن» . من هذا المنطلق نقرأ الخبر التالي الذي بثته وكالة الأنباء الألمانية: «أنفقت الحكومة الألمانية عام 2012 نحو 24 مليار يورو على الاعانات الاجتماعية، بحسب بيانات مكتب الاحصاء الاتحادي» وأعلن المكتب في مقره بمدينة «فيسبادن» غربي ألمانيا أن الاعانات الاجتماعية التي تصرف شهريا ارتفعت بنسبة 5.4% مقارنة بعام 2011، بواقع 298 يورو للفرد الواحد من الناحية الحسابية. وبلغ انفاق الاعانات الاجتماعية للفرد الواحد في الولايات الواقعة غرب ألمانيا 308 يورو، بزيادة ملحوظة عن الولايات الشرقية التي بلغ فيها نصيب الاعانة الاجتماعية للفرد الواحد 258 يورو .وسجلت ولاية هامبورج أعلى معدل في النفقات على الاعانات الاجتماعية بواقع 474 يورو للفرد الواحد، تليها ولاية بريمن (472 يورو للفرد)، ثم ولاية برلين (461 يورو للفرد)، بينما سجلت ولاية «بادن-فورتمبرج» أدنى معدل في النفقات على الاعانات الاجتماعية بين الولايات الغربية ذات الكثافة السكانية المنخفضة بواقع 215 يورو للفرد، في حين كان الأعلى ولاية شمال الراين – «ويستفاليا» (358 يورو للفرد).انتهى الخبر.

ويلاحظ أن الاعانات المالية تصرف للمحتاجين حسب تكاليف المعيشة في مناطق سكناهم. كما أنها ترتفع في ميزان التضخم أو ارتفاع أسعار السلع الضرورية.
«
دولة الرفاهة» مصطلح تُعَرِّفُه الموسوعة البريطانية «الدولة التي يتضمن دستورها وقوانينها ما يؤكد على أولوية حماية وتعزيز الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، حيث يقوم المفهوم على مبادئ المساواة في الفرص، والتوزيع العادل للثروة، والمسؤولية العامة عن غير القادرين على الاستفادة من الحد الأدنى للحياة الكريمة».
مصطلح دولة الرفاهية تبنته مجموعة من الدول المنتمية للاتحاد الأوربي وكذلك في أمريكا الشمالية وكندا، ولكن في منظومة رأسمالية تنحصر في ثلاثة نماذج عريضة. أولها: نموذج دولة الاشتراكية الدموقراطية (Social democratic welfare) المطبق في الدول الاسكندنافية وفي السويد بالتحديد. الثاني: نموذج دولة الشركات النقابية (Corporatist welfare) والذي يحاول أن يحافظ على التوازن الاقتصادي بجانب التوازن الاجتماعي وهو مطبق في ألمانيا. الثالث: نموذج دولة الاقتصاد الحر الكلاسيكية (Liberal welfare) حيث الدولة لا تتدخل في السوق إلا في سد الثغرات بتوفير الرعاية الاجتماعية بالحد الأدنى من الحاجات الأساسية للسكان وهو مطبق في الولايات المتحدة الأمريكية.

وتعتبر نظم الرعاية الاجتماعية بمسمياتها كافة من بين النظم التي تعزز أمن المجتمعات واسقرارها خلال المشاركة في مؤتمر العمل الدولي في الدورة 101الذي عقد في جنيف، وقعت السلطنة ومنظمة العمل الدولية يوم 8/6/2012 بمقر المنظمة على اتفاقية تقييم المركز المالي للهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، وتهدف الاتفاقية إلى دراسة الآثار المالية المترتبة على بدائل زيادة نسبة معامل احتساب المعاشات التأمينية من حيث نسبة الاشتراكات المطلوبة لتمويل أي من بدائل الزيادة المقترحة ودراسة نسب تخفيض معاشات التقاعد المبكر واقتراح التعديلات المناسبة، بالاضافة إلى قيام منظمة العمل الدولية بوضع نموذج خاص لنظام الهيئة يشمل الافتراضات والتوقعات والنتائج الخاصة بهذه الدراسة وتدريب الموظفين المختصين بالهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية على استخدام هذا النموذج.

في معظم دول العالم، إن لم نقل كلها، توجد نظم للرعاية الاجتماعية، وتأخذ مسميات عدة، كالضمان الاجتماعي، التأمينات الاجتماعية، صناديق الرعاية الاجتماعية، وصناديق التقاعد وغيرها. وتعرف باللغة الانجليزية بـ (Social Security). وهي برامج حكومية ـــ في الغالب ـــ لحماية المواطنين ورعايتهم عند تقدمهم بالسن أو في حالات العجز والاعاقة، وفي أوقات عدم توفّر فرص العمل، أو تعرضهم للاصابات أو المرض، وغيرها من الحالات التي تواجه المواطن غير القادر على تحمّل المتطلبات المادية للرعاية المعشية والصحية.
وتعتبر التشريعات في الدول المتقدمة أن الضمان الاجتماعي (أو جاء في أي مسمى) من بين الحقوق التي ضمنتها دساتير تلك الدول باعتبارها من أهم الحقوق التي تكفل للانسان حياة كريمة.
تاريخيا يمكن اعتبار أن الإسلام أول من شرّع نظام الرعاية والتكافل الاجتماعي من خلال فريضة الزكاة التي وردت في القران المجيد وأقرنت بفريضة الصلاة في اثنتين وثلاثين آية كريمة، كما أن هناك آيتين كريمتين بيّنتا توجيه الانفاق من الزكاة، ففي سورة «الذاريات» نصت الآية الكريمة «.. وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم»، وفي سورة «المعارج» نصت الآية الكريمة «..والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم».
وفي التشريعات الوضعية الحديثة تم استحداث أول نظم الرعاية والضمان الاجتماعي في أوروبا على مستوى أنظمة الحكم المطالبة باصدار قوانين في أوروبا منذ عام 1883 في ألمانيا وطبق نظاما اجباريا للتأمينات الصحية. وفي بريطانيا تم تطبيق برنامج للتأمين على من لم تتوفر لهم فرص العمل وذلك عام 1911، وفي الولايات المتحدة الأمريكية استحدثت برامج الضمان الاجتماعي عام 1935 .
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين تصاعدت مطالبات تبنتها النقابات والمؤسسات المدنية للاهتمام بالمسنين من الناس وبغير القادرين على تأمين سبل معيشتهم، فشُرّعت قوانين الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية وصناديق التقاعد، وغيرها من مسميات القوانين التي أولت الاهتمام بالانسان وبحقوقه في حال تقدمه بالسن أو إعاقته.
ويحتل الضمان الاجتماعي أهمية بالغة في معظم دول العالم المتقدمة،، ولزم دول العالم وقتا طويلا ليأخذ الضمان الاجتماعي موقعه في التشريعات والقوانين التي كفلت العيش الكريم للانسان.
لم يكن الضمان الاجتماعي بمعزل عن اهتمام المنظمات الدولية، اذ تضمنت وثائق منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المنبثقة عنها مبادئ الدفاع عن حقوق الانسان، فقد نصت المادة (55) من ميثاق الأمم المتحدة على رفع مستوى حياة الناس (ضمان) بصورة كاملة وتوفير شروط التقدم والتطور الاجتماعي والاقتصادي لهم. وقد تضمّن الاعلان العالمي لحقوق الانسان لعام 1948، اضافة الى الحقوق المدنية والسياسية، جملة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية المهمة، منها الحق في الضمان الاجتماعي، كما تضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية لعام 1966 تأكيداً لحقوق الانسان الأساسية، ومنها حقه في الضمان الاجتماعي. واهتمت منظمة العمل الدولية بموضوع الضمان الاجتماعي، وأصدرت مجموعة اتفاقيات وتوصيات تتعلق بهذا الموضوع، لعل أهمها الاتفاقية رقم (102) لعام 1953 التي نصّت على تقديم الأنواع الآتية من الضمان الاجتماعي: الخدمات الطبية والتعويض في حالات المرض والتعويض في حالة فقدان العمل ومعاشات الشيخوخة وتعويض اصابات العمل والتعويضات العائلية وتعويض الأمومة ومعاشات العجز ومعاشات في حالات فقدان المعيل.
أما (الاعلان العالمي لحقوق الانسان) الصادر في 10/1/1948 فقد نصت الفقرة 3 من المادة 23 على ما يلي «لكل فرد يقوم بعمل الحق في أجر عادل مرض يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الانسان، وتضاف اليه، عند اللزوم، وسائل أخرى للحماية الاجتماعية»،   كما نصت المادة 25منه في الفقرة الأولى ما نصه «لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن ارادته».
ويمكن اعتبار أن الوعي لدى صنّاع التشريع ( البرلمانات) ولدى منفذيها (الحكومات) بضرورة الاهتمام بالانسان في مراحل حياته كلها جعل من الضمان الاجتماعي حقيقة تميز المجتمعات عن بعضها في مدى احترامها للانسان ولحقوقه في حالة عمله وعطائه أو تقدمه في السن أو اعاقته .
ويمكن تعريف «الضمان الاجتماعي» بأنه: «تشريعات وقوانين تصاغ لرعاية المواطنين وأسرهم أثناء عملهم أو فقدانهم العمل أو اعاقتهم أو تقاعدهم تنفذها مؤسسات حكومية ومدنية باسناد مالي حكومي، لضمان عيشهم الكريم و لأمن المجتمع».
وهناك عدد من الأسس التي استندت عليها تشريعات وقوانين الضمان الاجتماعي، وتؤكد مسوغات التشريعات والقوانين التي تسنها الدول على أن نظم الضمان الاجتماعي بأشكاله كافة ليست مِنَّة من الحكومات على مواطنيها وانما حق طبيعي للمواطن العامل ولأسرته .
فالضمان الاجتماعي نظام تكفله الحكومات وتسعى لتطبيقه بهدف أمن المجتمعات واستقرارها و لزيادة الرفاه المادي والحماية الصحية للعاملين. كما أن الضمان الاجتماعي يشمل أيضاً المواطنين في حالات الشيخوخة والعجز والمرض وفقدان المعيل. فتتسع قوانين وتشريعات الضمان أو تتقلص في شمولها الرعاية حسب الامكانات
المادية للدولة.
وعليه فان الضمان الاجتماعي يمكن أن يكون واسعاً يشمل الحق في الضمان المادي في الشيخوخة وحالات فقدان القدرة على العمل، و في الخدمة الطبية المجانية وفي العلاج، و في اعالة الأطفال وتربيتهم وهو الضمان الذي تأخذ به الدول الاسكندنافية.
ويمكن اعتبار أن نظم الضمان الاجتماعي وتطبيقاتها في الدول الاشتراكية أكثر وضوحا وأشمل رعاية للمواطنين بالمقارنة مع نظم الضمان في الدول الرأسمالية، على اعتبار أن القطاع الخاص هو المهيمن على ملكية وسائل الانتاج وادارتها في الدول الرأسمالية، ومن ثم، فان نظم الضمان قد تواجه ضعف تطبيق التشريعات من قبل شركات ومصالح القطاع الخاص، وكثيرا ما اشتدت الأزمات بين النقابات من جهة وبن الشركات ويصبح تدخل الحكومات كطرف ثالث ضعيفا من خلال قوة الشركات في استغلال ثغرات في القوانين.
ويمكن تقسيم نظم الضمان الاجتماعي حسب عائديتها وادارتها:
1
ـ نظم الضمان الاجتماعي أو التأمينات الاجتماعية الحكومية: التي تنظمها وتعمل على تنفيذها مؤسسات حكومية للعاملين في دوائر الدولة ومؤسساتها، وتقوم هذه النظم على حسم نسب من أجور العاملين لتضيف عليها ضعفا على مدى سنوات عمل الموظف أو العامل، ويتم انفاقها عند استحقاق العاملين عند تقاعدهم أو مرضهم أو تعرضهم للاعاقة، حسب رحابة النظم وشمولها رعاية العاملين. وتشمل تلك النظم صناديق التقاعد بأنواعها.
كما يمكن أن يكون تمويل نظم الضمان الاجتماعي أو التأمينات الاجتماعية مشتركا بين أصحاب العمل والحكومات فيلزم القانون للمؤمن عليهم من العاملين في الشركات والمصالح الخاصة مضاعفة النسبة التي تحسم من أجرهم وتعاد لهم عند تقاعدهم أو مرضهم أو تعرضهم للاعاقة، حسب رحابة النظم وشمولها رعاية العاملين.
2
ـ نظم الضمان الاجتماعي غير الحكومية: تلك النظم تؤسسها النقابات و المنظمات والجمعيات وأصحاب العمل ولا تتدخل الدولة الا كرقيب، «ويُنفّذ هذا النظام شركات تجارية تأمينية خاصة وينفذه أحياناً أصحاب العمل، ومثال ذلك تأمين اصابات العمل في معظم الولايات المتحدة الأمريكية، ويهدف هذا النظام الى تحصيل الأرباح، كما هي الحال في شركات التأمين والتخلص من دفع الضرائب على أجزاء من الدخل لأصحاب العمل، ومساعدة العاملين المحرومين من الأجور، كما هي الحال في الأنظمة التي تنفذها النقابات».
3
ـ نظم الرعاية الاجتماعية الحكومية: وهو الأكثر انتشاراً بين أنظمة الضمان الاجتماعي، وهو نظام المساعدة الاجتماعية الحكومية التي تدفعها أجهزة الدولة من العائدات الضريبية العامة، من دون تحصيل أقساط من العاملين أو أصحاب العمل، الا أن الحق في الحصول على هذه المساعدات غير مضمون قانوناً، ولا يمثل حقاً شخصياً للعامل، لذلك فان هذا النظام مرتبط بالبحث والتفتيش عن وجود الحاجة كما يراها الموظفون المكلفون، بحسب الحالة، يضاف الى أن هذا النظام غالباً ما يشترط الزام من يحصل على هذه المساعدة اعادتها اذا زالت أسبابها.
في السلطنة هناك عدد من نظم الضمان الاجتماعي ممثل بالهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، وعدد من صناديق التقاعد . وأوجد تعددها فوارق بين المشمولين بها واذن فانها تحتاج الى توحيدها، فرعاية وكريم عيش الانسان العماني كانت ولا تزال وستبقى أولوية لدى جلالة السلطان  – حفظه الله ورعاه.

تعليقات