نهاية مجازر المال الجماعية - زياد محمد الغامدي

لست مع من يقول إن الانهيارات المالية والاقتصادية نتيجة للخلل الهيكلي في تركيبة الاقتصاد الدولي، ولا أتفق مع من يعتقد أن (مجازر المال الجماعية) التي وقعت في السنوات المائة الماضية، جاءت نتيجة للضعف في البنية التحتية للقطاع المالي، أو نتيجة ضعف في الأنظمة والقوانين الحاكمة للتعاملات الاقتصادية؛ المصرفية منها والتأمينية والتجارية على حد سواء.

أنا لا أقول إن الأنظمة والقوانين لم تتطور بشكل مهول، خصوصا منذ عام 1932، ولا أدعي أن القوانين والأعراف والأسس والقواعد المالية كاملة ولا مجال لتطويرها وصقلها، لكني أدعي أن الالتزام بأسس العرف التجاري القائم على الأخلاق والسلوك السوي كان وما زال يكفي لتجنب كل المجازر المالية التي وقعت، والتي كلفت البشرية الكثير وسببت من المآسي الإنسانية ما يندى له الجبين. مآس عميقة في الألم، لا تقل عن مآسي الحروب والكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وبراكين. كما أن تفعيل الرقابة الشديدة على جميع الأطراف المؤثرة في الاقتصاد (وكلها مؤثرة بطبيعة الحال)، وإنزال العقوبات المغلظة بمن يتلاعب ويتهاون في الأنظمة والقوانين، كفيلة هي الأخرى بلجم من لا أخلاق ولا إنسانية له. 

ما الذي يتوقعه المصرفيون (الفلتات) حين (يبتكرون) منتجات مصرفية أشبه بالطلاسم، ومن ثم يجتهدون في تسويقها على أنها منتجات استثمارية، أكاد أجزم أن أغلبية من يسوقونها لا يملكون القدرة على شرحها وتفصيل مخاطرها بالشكل الصحيح والشامل. وما الذي تتوقعه شركات التأمين حين تتلاعب في قوائمها المالية لتعكس واقعا ماليا لا يمت للحقيقة بصلة؟ وما نتائج كذب وتدليس بيوت الاستشارات المالية - التي يفترض فيها الحياد - على المشرعين والسلطات المالية في الدول؟ وما الذي يتوقعه المشرعون والمحققون الذين يمرون على كل هذه الممارسات مرور الكرام، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب ولا بعيد. الصمت على الممارسات (الفاحشة) لبعض المصارف دفعها لأن تتجرأ وتتعامل مع تجار المخدرات والإرهابيين والقتلة المأجورين وعن سبق إصرار على ذلك. والصمت عن ممارسات كثير من شركات التأمين دفعها لأن تستمرئ الكذب والتدليس حتى على مساهميها والمؤمنين لديها، وبعضها وصلت به الوقاحة إلى أن يبدي امتعاضا شديدا من القوانين الدولية التي تمنع التعامل مع الدول الداعمة للإرهاب والقتل.
ما الذي يتوقعه العالم حين تصبح المضاربات على المعادن والنفط والمواد الغذائية مدعاة فخر واعتزاز لمديري الصناديق الاستثمارية في الغرب والشرق على حد سواء؟ متجاهلين أبسط الأعراف التجارية والأخلاقية التي مفادها أن المضاربات لا تؤدي إلا إلى كوارث وانهيارات في نهاية المطاف. الأمر لا يحتاج إلى عبقرية لاستيعابه، كل ما يحتاج إليه حد أدنى من الإنسانية والتفكير السوي.
ورغم كل الأزمات المالية المرعبة التي تحدث، يخرج كبار التنفيذيين من (الجريمة) كما تخرج الشعرة من العجين. هكذا، وكأن هناك من خطط لإلحاق الأذى بالبشر، واستخدم هؤلاء التنفيذيين لتحقيق ذلك، ومن ثم قدم لهم الحماية والحصانة. ويصل الأمر إلى أقصاه حين يخرجون بمكافآت تقدر بمئات الملايين. بالله هل هناك وقاحة تشريعية وقضائية أكثر من الصمت على مثل هؤلاء الأبالسة!
إن مجازر المال الجماعية التي لحقت بالعالم في السنوات المائة الماضية وما قبلها لن تنتهي ولن تتوقف حتى يصبح الالتزام الأخلاقي سمة العاملين والقائمين على الاقتصاد الدولي وعلى المصارف وغيرها. فهذه المجازر المالية لا يمكن لأي قانون أو عرف أن يمنعها طالما استحوذ الجشع والطمع وسوء الخلق على التنفيذيين، وطالما كان الضعف سمة المشرعين. لا ينبغي السماح لمن لا أخلاق له بالتنفذ في القطاعات الاقتصادية مهما بلغت مهاراته المهنية والعلمية، لا بد من التركيز على السمو الخلقي والارتقاء الإنساني. وإلى أن تصل الإنسانية إلى هذه القناعة، ستستمر مجازر المال الجماعية إلى أن تنتهي الحياة على هذه الأرض.

تعليقات