الدولة الريعية تُضعف قطاع التأمين - داوود سالم توفيق

يجب الإقرار بأن أسلوب الدولة الريعي والمنح الحكومية المجانية تلعب دوراً رئيسياً في عزوف المواطنين عن التأمين. فمجانية معظم الخدمات العامة لا تشجعهم على الاعتماد على المنتجات التأمينية الموجهة لضمان حياة معيشية كريمة، ولتأمين مستقبل أبنائهم وأسرهم، وهو أمر يعيق محاولات زيادة الوعي بأهمية التأمين، كما أن عدم وجود نظام ضرائبي فعلي لتستفيد الدولة من عوائده، ولتنمي بالتالي مشاعر المسؤولية والإدراك بأهمية المشاركة في بناء الوطن، ساهم في فقدان التأمين لأهميته الاقتصادية والاجتماعية، يضاف إلى ذلك غياب التشريعات والقوانين المنظمة لمهنة التأمين، وعدم رغبة المستثمرين في استخدام قنوات الدعاية والإعلان لجذب العملاء واستقطابهم، كلها ساهمت في جمود قطاع التأمين في الكويت، على الرغم من أنه الأقدم في المنطقة.


إن مواصلة الدولة الريعية في منح مواطنيها مزايا مادية كثيرة من دون مقابل، والمفاخرة بفرض وصايتها ومسؤوليتها الكاملة عن المواطن، أثرتا وبشكل مباشر وبمستويات ملحوظة على قطاعات اقتصادية عديدة في دولة الكويت، ولكن أكثر القطاعات الاقتصادية تأثراً هو قطاع التأمين، إذ قللت أساليب الدولة الريعية من أهمية التأمين في نظر المواطن بشكل حاد، وهو على النقيض مما يحدث في كل الدول المتقدمة التي يزدهر فيها قطاع التأمين، وحيث تكون غالب الخدمات الحكومية هناك بثمن، وبعض مراحل التعليم والعلاج بمقابل مادي.
ولهذا، نجد أن الموظف في الدول الغربية سواء كان في القطاع العام أو الخاص يحرص على حماية مستقبله الوظيفي، وتأمين مستقبل أسرته التعليمي والصحي، ويثابر على الإنتاج حتى لا يطرد من الوظيفة. إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية هناك تدعم قطاع التأمين بشكل مباشر، إلى جانب دعم القطاعات الاقتصادية الأخرى، الأمر الذي يزيد من الوعي بأهمية التأمين، ومثل هذه الظروف هي التي دفعت بالعاملين في قطاع التأمين نحو الإبداع والابتكار والبحث في ما يحتاجه المواطن والمقيم لتقديم الأفضل من أجل البقاء في ساحة المنافسة.
أما في دول الخليج، ودولة الكويت خصوصاً، فإنه كان يفترض أن يخطو قطاع التأمين خطوات عملاقة نحو الأفضل لولا الأسلوب الريعي، إذ إنه وفي هذه البقعة من العالم يكون للمال العام طعم آخر، رغم ما فيه الكثير من المرارة، إذ إنه صار من الطبيعي أن تترسخ وتتجذر اللامبالاة في طبيعة وسلوكيات شعوب تتصرف غالبيتها كما الفراخ المولودة للتو، والتي لا تعرف أسلوباً إلا أن تفتح أفواهها لتلقي الدولة فيها شيئاً لمواصلة حياتها الاستهلاكية، فأي أهمية ستنشأ للتأمين في الكويت إذا كانت الدولة توفر للمواطن خدمات مجانية متنوعة، وتقدم له كل متطلبات الحياة على طبق من ذهب، وتواصل منحه العطايا المادية من دون مقابل مهني، وكثيراً ما تكون من دون إنتاجية.
النموذج الريعي في الكويت يبعث على الأسى والشفقة على مستقبلها، فعدا أن الأسلوب الريعي يوازي ما بين الإفراط في إنتاج النفط وتصديره من جهة، والهدر في الإنفاق العشوائي من جهة أخرى، إلا أن هذا الإفراط والتفريط لا تقابله خطط تنموية أو مشاريع استثمارية أو حتى إنتاج. فأفضل إبداعاتنا تكمن في تكوين فوائض بترولية وتوظيفها في استثمارات تتركز في العقار وفي محافظ مالية وإيداعات مصرفية بمعدلات معروف مسبقاً عدم ثباتها طويلاً. ولهذا نستطيع القول ان مثل هذه النشاطات الاقتصادية غير مضمونة النتائج وتبعاتها خطيرة.
ورغم ذلك لا تفكر الدولة لا في الحد من نفقاتها غير المبررة، ولا في تقليص بند الرواتب والأجور ولا في خصخصة الخدمات العامة، ولا في تشريع القوانين الاقتصادية المطلوبة لتنشيط الاقتصاد الوطني، ولا في فرض أبسط أنواع الضرائب على المواطن لدفعه دفعاً على الإحساس بأنه يساهم بطريقة ما في بناء الوطن، وهي كلها عوامل وإن كانت تتضمن مستقبل الوطن، لكنها في الوقت نفسه تزيد من أهمية قطاع التأمين بشكل مباشر أو غير مباشر.
وكلما حاولت الدولة الريعية إرضاء المواطن ازداد جشع هذا المواطن واعتبر العطايا حقاً مكتسباً، برزت بشكل جلي من خلال كثرة الاضرابات والاعتصامات، رغم الزيادات المتواصلة وغير المبررة للمداخيل وقبلها اسقاط فواتير الكهرباء وما سبقها من اسقاط لالتزامات مالية على المواطنين. ومثل هذه التنازلات المالية من قبل الدولة الريعية مكلفة مالياً وتفتقر الى مبدأ العدالة والمساواة، كما انها تعزز شعور الفرد بأن الدولة مستعدة للوفاء بكل التزامات المواطن تجاهها.
ولهذا تنمو مشاعر اللامبالاة والاتكالية وسلوكيات الاستهلاك والإنفاق والهدر والفساد الإداري والمالي والتسيب، لنفاجأ بتراجع كارثي للاقتصاد ومن ثم ضياع الدولة. ومجرد تذكر أرقام الذين أقبلوا على الحصول على قروض بنكية وأرقام المواطنين الذين امتنعوا عن سداد التزاماتهم المالية تجاه البنوك الكويتية بعد إعلان النواب عن نيتهم اسقاط القروض، يصور مشهداً درامياً لاقتصاد مثخن بالجراح.
في الدول الريعية تضعف القدرات المؤسسية للدولة عند محاولة السيطرة على الفساد المالي والإداري، ولا تقدر على الإنجاز عند محاولتها القيام بعمليات إصلاح جذرية بسبب تداخل الاختصاصات والمسؤوليات وتناقضها الإداري والفني. فإن هي حاولت القيام بعمليات إصلاح جزئية في مؤسسة ما يكون الفساد قد استشرى في مؤسسة أخرى، وهكذا. والغريب في الأمر أن الفساد في بلادنا صار سلوكاً معتاداً في الوقت الذي انعكس سلباً على مختلف القطاعات الإنتاجية ليدفع بالاقتصاد نحو التراجع.
ورغم كل السلبيات التي تعاني منها صناعة التأمين في الكويت، لكنه لا يوجد ما يدعو للقلق على هذا القطاع الحيوي، لأنني وبحكم تجربتي الطويلة في قطاع التأمين، أرى الكثير من فرص النهوض وتعويض ما فات، فقط لو تحركت الشركات الرئيسية في قطاع التأمين المحلي تدعمها بقية الشركات من خلال اتحاد شركات التأمين. وستكون لنا وقفة عند أساليب النهوض بهذا القطاع الحيوي إن شاء الله.
داوود سالم توفيق
dawoud.tawfeeq@ghazalins.com
العضو المنتدب والرئيس التنفيذي - شركة غزال للتأمين