التأمين مطلب عصري - بقلم المحامي حسام الأحمد

لا يمكن معرفة الأسس العلمية التي تستمد منها " صناعة " التأمين وسائل وإجراءات تحديد " مبالغ " التأمين بأنواعه المختلفة، إلا إذا تيسر فهمها بإيضاح الفرق بين " الممكن " و " المحتمل " والمعنى المحدد لكل منهما.
أولاً - الممكن :‏
فكل شيء ممكن إذا لم يخلق الله قانوناً طبيعياً يمنع حدوثه , فحدوث حادثة اليوم أو غداً أو اليوم وغداً في طريق تسلكه عشرات آلاف السيارات يومياً ممكن بل. إن حدوثه مرجح - أي محتمل.‏
غير أن دوران الكرة الأرضية حول " محورها " من الشرق إلى الغرب بدلاً من الغرب إلى الشرق كما هو حقيقة ( وهذا هو السبب الظاهر لشروق الشمس من الشرق وغروبها من جهة الغرب كما يبدو لنا ) أمر غير ممكن لأن الله خلق قوانين " طبيعية " ثابتة.‏


ثانياً - المحتمل :‏
أما المحتمل فهو ما نرجح حدوثه ترجيحاً قوياً أو ضعيفاً أو وسطاً بينهما وكل " محتمل " ممكن وليس كل " ممكن " محتملاً.‏
فمن الممكن أن يتضرر غداً أحد السالكين لطريق في أي مكان لحادثة سيارة في أحد الطرق، بل إن ذلك أمر محتمل نرجح حدوثه بناء على تجاربنا السابقة ونكاد نجزم أن حادثة من الحوادث ستقع.‏
ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد... لأن علماء الرياضيات والإحصاء اكتشفوا قوانين علمية تستطيع عن طريقها تقدير نسبة الأشياء المحتملة، متى ما عرفنا عنها بعض المعلومات والتفاصيل.‏
وعلى سبيل المثال نستطيع أن نقدر عدد الناس الذين سيموتون على امتداد طريق من الطرق في فترة معينة من الزمن، إذا كان قد سبق لنا مراقبة هذا الطريق في الماضي وأحصينا جميع ما وقع فيه من حوادث وكيف يمكن لنا ذلك ونحن في الوقت ذاته نؤمن أنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل.‏
في البدء ينبغي أن ندرك أنه ليس باستطاعة أحد أن يحدد هوية الأشخاص الذين سيموتون على هذا الطريق لأنه لا يعلم ذلك إلا الله.‏
وبالنسبة إلى شخص معين لا ندري إن كان سيموت أم سيكون حياً بعد مروره من هذا الطريق في العام المقبل أو بعده أو قبله. وكل الذي نستطيعه هو تقدير عدد الوفيات على هذا الطريق في المستقبل بناءً على الإحصاءات التي سجلناها في الماضي عن حوادث هذا أو ذاك الطريق.‏
وقد نصيب تماماً، وقد نخطئ قليلاً أو كثيراً في التقدير بالنسبة إلى سنة من السنين، ولكن الذي سيحدث فعلاً أن عدد الوفيات سيزيد قليلاً عما قدرنا في بعض السنين، وسيقل عن ذلك قليلاً في بعضها الآخر، بحيث يصبح أكثر دقة في المتوسط.‏
ومن يشك في دقة ما ذكر في المثال السابق فليأت بإناء ويضع فيه ألف قطعة من قطع الخشب الصغيرة المتماثلة في وزنها وحجمها وملمسها وفي كل شيء أخر، ما عدا أنه طليت خمسمائة منها باللون الأسود وطليت الخمسمائة الأخرى باللون الأسود ثم مزجت هذه القطع الألف مزجاً جيداً، وتناول الإناء إنسان عصبت عيناه وطلب منه أن يسحب منها قطعة واحدة فما هو الاحتمال أن تكون القطعة سوداء؟‏
قد يقال أن الاحتمال /50/ بالمائة أنها سوداء ... ولكن الحقيقة أننا لا نستطيع أن نقول ذلك، لأنه بالنسبة إلى قطعة " واحدة " قد تكون سوداء، ويصبح الاحتمال /100/ بالمئة وقد لا تكون سوداء، ويصبح الاحتمال صفراً.‏
أما الذي يمكن قوله بثقة فهو الآتي : لو أن الشخص الذي لا يرى الألوان مؤقتاً كرر سحب قطع الخشب من الإناء مئة مرة، فسنجد أن خمسين أو نحو خمسين من هذه القطع هي ذات الطلاء الأسود. وقد يقول قائل : أليس من الممكن أن تكون جميع هذه الأخشاب المئة التي سحبها ذلك الإنسان من الإناء كلها‏
سوداء ؟‏
بالطبع ممكن ... فليس هناك قانون طبيعي يمنع حدوث ذلك ولكنه أمر غير محتمل. أليس من الممكن أيضاً أن يكون جميع المواليد الذين يولدون من نساء العالم في عام من الأعوام كلهم ذكوراً، أو كلهم إناثاً ؟ بالطبع ممكن... ومع ذلك فليس هذا ما يحدث بل إننا نجد أن نحو نصف المواليد ذكوراً ونحو نصفهم إناثاً، وإذا زاد عدد مواليد الذكور على عدد مواليد الإناث في عام واحد أو بضعة أعوام، فإن العكس يحدث في المستقبل بحيث يكون عدد المواليد الذكور مساوياً لعدد المواليد الإناث إذا ما نظرنا إلى إحصاءات عشرات السنوات.‏
ولكن ما علاقة كل ما تقدم بالتأمين ؟ هذا ما سيتم بيانه.‏
ثالثاً - المدلول الاقتصادي للتأمين :‏
لقد أثبتت التجربة الميدانية أننا نستطيع تقدير عدد حوادث السيارات، ونستطيع تقدير عدد ضحاياها، ونستطيع أيضاً تقدير عدد الناس الذين يموتون في كل عام في مكان محدد يسكنه ملايين الناس لأي سبب من الأسباب ونستطيع تقدير كل هذه الأشياء من دون أن ندعي معرفة الغيب لأنها كلها تتبع لقوانين رياضية معروفة.‏
والذي يدعو إلى ضرورة وجود التأمين من الناحية الاقتصادية البحتة هو أن الخسائر المادية التي تسببها الحوادث من الضخامة بحيث لا يستطيع كل فرد من أفراد المجتمع بمفرده تحملها، بينما يسهل على غالبية الأفراد دفع مبلغ صغير يخسره كل منهم كله في حال عدم تعرضه للحوادث، ويحصل على أكثر منه بكثير لو قدّر الله عليه أن يكون طرفاً في حادث من الحوادث.‏
فالمبدأ بسيط جداً : يقدر عدد الذين يرجح أنهم يشترون التأمين إجمالاً وتفصيلاً. ويقدر المبلغ الذي يلتزم بدفعه ضد الحوادث أو لعلاج الأمراض أو غيرها مما يراد التأمين ضد حدوثه، كالحرائق وغرق السفن، ثم يقدر تكاليف إدارة مؤسسة أو شركة التأمين، بما في ذلك متوسط الأرباح التي يتوقع المساهمون أو ملاك الشركة أو المؤسسة ثم يحدد ثمن شراء " بوالص " التأمين المناسب بحسب الظروف المكانية والاقتصادية التي تحددها " السوق ".‏
وهل حصل فعلاً أن شركات التأمين خسرت في أي عام من الأعوام ؟‏
بكل تأكيد ... والأرقام والسجلات التجارية تثبت ذلك، والمبدأ نفسه الذي يحكم التأمين عن الخسائر المرورية يحكم التأمين عن أضرار المرض والحرائق والوفيات المفاجئة وغير المفاجئة شركات التأمين بجميع أنواعها تقدر نفقاتها ودخلها وتخطئ أحياناً وتصيب في أحيان أخرى مثلها في ذلك مثل في أي منشأة تجارية أخرى.‏
وحتى في غرب وشمال أمريكا فإن ما يسمى بـ " تأمين الحياة " ليس القصد منه منع الموت ولكن تعويض الورثة بمبلغ يماثل مجموع ما كانوا سيحصلون عليه من " دخل " المؤمن عليه أو عليها لو عاش إلى أن وصل إلى العمر " المحتمل " ويتم تقدير " العمر المحتمل " عن طريق الوسائل الإحصائية والظروف المكانية والزمانية ومستوى العناية الطبية وغيرها مما يعرفه المختصون. وكأي تقدير آخر قد يزيد وقد ينقص بسنوات كثيرة أو قليلة لفرد واحد، ويقترب كثيراً من الرقم " المقدر " في المتوسط لملايين من الناس.‏
وماذا يحصل لو دفع المؤمن عليهم أكثر أو أقل من مجموع التكاليف في سنة من السنوات لأي نوع من أنواع التأمين ؟.‏
يحدث تماماً كما يحدث في أي عمل تجاري آخر، فإما أن تزيد الأرباح بأكثر من " المتوقع " أو تقل عن اجتهاد " المتوقع " بل قد تعلن الشركة عن إفلاسها تماماً، أما كيف تحسن أو تسيء شركات التأمين استثمار دخولها فتلك قضية أخرى لا علاقة لها بجوهر ما يراد إيضاحه.‏
  
المحامي : حسام الأحمد
صحيفة الجماهير

تعليقات