عبد الباقي رضا، فاروق يونس ومصباح كمال: شذرات من التاريخ المروي والذكريات الشخصية حول التأمين في العراق

مقدمة
تم إعداد هذه الورقة بطلب وتشجيع من د. بارق شبر، وهو الذي اقترح علينا عنوانها.  جميع الهوامش هي من وضع مصباح كمال.
لكل واحد منا حكاية في اختياره لمهنة ما.  أحياناً يكون الاختيار مدروساً قائماً على قناعات معينة، واحياناً يكون “الاختيار” مفروضاً على المرء بحكم الظروف التي تحيط به.  وأنا [م. ك]، مثل غيري، لي تجربتي وقد كتبتُ عنها عام 2007،[1]وتشاء الظروف أن يتجدد موضوعها في سياق غير متوقع، كما سأرويه أدناه ثانية.
هي حكاية وتجربة عادية لكنها تلقي بعض الضوء على سياسة التوظيف في العراق وبخاصة في شركة التأمين الوطنية التي تميزت تحت إدارة الأستاذ عبد الباقي رضا (1966-1978) باعتماد معايير موضوعية في انتقاء العاملين والعاملات دون السؤال عن اللقب والدين والطائفة والقومية والانتماء السياسي والحزبي.  وهذ التجربة، وتجارب الآخرين، تحمل رسالة توجيهية لرسم سياسة للتوظيف لا تعتمد على المحاصصة الأمريكية-العراقية الصنع والسائدة منذ 2003.
أنا لا أدعو إلى استعادة الماضي بل مجرد رصده واستنباط درس منه.  آمل أن تشجع هذه الورقة الآخرين للكتابة عن تجاربهم في التوظيف.  وبالطبع فإن ما نكتبه من حكايات ليس بديلاً عن تحليل سياسات التوظيف وآثارها الاقتصادية على الموظفات والموظفين وعلى المؤسسات والشركات التي يعملون فيه، فهذه الحكايات هي مجرد إشارات قد يُستفاد منها للتدليل على حالات معينة.
ترجع خلفية هذه الورقة إلى تعليق وسؤال كتبه الأستاذ فاروق يونس حول مقالتي “أيسر الخفاف: عقيلة رائد الاقتصاد العراقي محمد سلمان حسن وشريكته في النضال من أجل حرية العراقيين” المنشورة في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين.[2]  ولولا تعليقات وإيضاحات الأستاذين فاروق يونس وعبد الباقي رضا وتشجيع د. بارق شبر، لما اكتمل موضوع هذه الورقة.


كيف يهتدي المرء إلى اختيار العمل والمهنة؟
كتب الأستاذ فاروق يونس التعليق التالي في موقع الشبكة بتاريخ 5 آب 2015:
“ورد في مقالك – بأنك بدأت عملك في شركة التامين الوطنية عام 1968 اضطرارا ولست مختارا – وانك تمتلك مؤهل معرفة اللغة الانكليزية والتي ربما كانت من العوامل المهمة التي شجعت على تعينك لكن الامر الجدير بالذكر ايضا هو: كيف اهتديت الى العمل في مجال التامين اضطرارا؟ ومن كان حلقة الوصل بينك وبين شركة التامين الوطنية؟ لقد كنت محظوظا أستاذي الكريم في قبول تعينك في قطاع التامين لأنك كما قال الشاعر الجاهلي:
جاورتهم زمن الفساد —– فنعم الجار في العسراء واليسر.
مع خالص الود والتقدير.”
العمل في شركة التأمين الوطنية
في تعليقي على سؤال الأستاذ فاروق يونس كتبتُ الآتي بتاريخ 5 آب 2015، وهو منشور أصلاً في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
“الأستاذ العزيز فاروق
تسأل: كيف اهتديتُ إلى العمل في مجال التأمين؟  ومن كان حلقة الوصل بيني وبين شركة التأمين الوطنية؟
أشكرك على إثارة هذا السؤال الشخصي، وجوابي عليه شخصي أيضاً.  آمل أن يتسع صدر مدير تحرير الشبكة لقبول ما سأكتب لأن ما سأذكره قد يلقي قليلاً من الضوء على بعض الممارسات الإدارية في الماضي، مثلما قد يؤشر على الانحدار القائم منذ أكثر من عقد في مختلف مناحي الحياة.  سأكتب مع حفظ الألقاب.
عندما حصلت على شهادة البكالوريوس في السياسة من جامعة ويلز (سوانزي) عام 1967 رغبت في إكمال دراستي للحصول على شهادة الماجستير.  تم قبولي في جامعة برمنغهام وكنت أؤمل نفسي بالحصول على تمديد لبعثتي الدراسية.  لم توافق وزارة المعارف على التمديد فرجعت إلى العراق لعدم توفر المورد المالي لدفع أجور الدراسة والسكن بعد أن قطعت شوطاً في الدراسة (ما يزيد عن ثلاثة شهور، وكنت أعد لأطروحة عن روبرت أوين) عملت خلالها كتدريسي مؤقت لمجموعة من طلبة الصف الأول الجامعي (كان عليَّ تدريس شيء من تاريخ الفكر الاشتراكي وخاصة البيان الشيوعي).
في جامعة برمنغهام تعرفتُ على صبري زاير السعدي، وكان يُعدُّ لأطروحة الدكتوراه في التخطيط الاقتصادي الوطني.  قبل رجوعي إلى العراق سلّمني أمانة كي أوصلها لخطيبته، التي كانت تعمل في الجهاز المركزي للإحصاء، وزارة التخطيط، وذكر لي اسم اثنين من زملائه في الوزارة كامل العضاض وحارث الحيالي.  وكانت لي زيارات لهما، وصار لهما علم بوضعي كخريج عاطل عن العمل رغم أن عقد البعثة مع وزارة المعارف كان ينص على العمل في وزارة الخارجية.[3]
بعد انقضاء عام وعدم توظيفي طلبت من مديرية البعثات إلغاء العقد كي أبرئ ذمتي تجاه الدولة (تمويل خمسة أعوام من الدراسة) وأحاول العمل في إحدى دول الخليج.  نصحني مدير البعثات، خطاب العاني، بالتريث لأنه سيعمم كتاباً إلى الوزارات كافة يذكر فيه بأنني خريج من جامعة بريطانية أحمل شهادة بكالوريوس بدرجة شرف ويطلب النظر في أمر تعييني.  تمخض هذا الكتاب بدعوة يتيمة من قبل وزارة الشباب للعمل كمترجم، وهو ما لم أتحمس له.  في هذه الأثناء، ولم أكن قد قررت النظر في العمل في وزارة الشباب، علمت زوجة عبد الباقي رضا (مدير عام شركة التأمين الوطنية آنذاك)، التي كانت تعمل في وزارة التخطيط وعلى صلة مهنية بكامل العضاض وحارث الحيالي، علِمتْ منهما بحالتي وبموضوع كتاب التعميم للوزارات.  أخبرتْ زوجها بالأمر فطلبَ الكتاب من وزارة الاقتصاد.
على إثر ذلك دُعيت إلى شركة التأمين الوطنية لمراجعة محمد جواد المظفر في الشركة، وأخضعتُ لامتحان تحريري في اللغة الإنجليزية ضم الامتحان ترجمة جملة من الفقرات والمصطلحات المستخدمة في التأمين؛ ومن حسن حظي أن بعضها كانت مما أعرفه كالقوة القاهرة والأعمال العدائية والتمرد والخطر وغيرها.  تبع ذلك مقابلة صارمة من قبل رفعت الفارسي، المعاون الفني للمدير العام، انصبّت على اللغة وكذلك نطاق معرفتي بالتأمين.[4]  وهكذا تم تعييني في الشركة أواخر عام 1968.  وكما علمتُ من محمد جواد المظفر (عضو مجلس إدارة شركة العراق الدولية للتأمين) عندما التقيته في بغداد في تموز 2012 فقد كان نجاحي باهراً ومحط استحسان كبير من قبل رفعت الفارسي وهو الذي أوصى بتعييني وكان القرار النهائي لعبد الباقي رضا.
وقد استفدت من تجربتي في التعيين في شركة التأمين الوطنية في كتابة ورقتي (الأستاذ عبد الباقي رضا: تقييم دور القائد الإداري في مؤسسة تابعة للقطاع العام) المنشور في موقع الشبكة.  ففيها كتبت التالي حول بعض ملامح سياسته في الإدارة والاستخدام:
“انتقاء الموظفات والموظفين (وكان ذلك قبل إدخال التعيين المركزي الذي سلب إدارات المؤسسات العائدة للدولة حرية التعيين) دون انحياز، واعتماد معايير الجدارة والمعرفة واللغة (العربية والإنجليزية)، وتعريض مقدم طلب التعيين لامتحان تحريري ومقابلة، للكشف عن مدى توفر هذه المعايير لدى مقدم الطلب.”[5]
ومن المناسب أن أذكر هنا أن مصطفى رجب، مدير عام شركة إعادة التأمين العراقية، وكان معاصراً لعبد الباقي رضا، كان يستخدم نفس الأسلوب الإداري في التعيين الذي كان مطبقاً في شركة التأمين الوطنية، وبخاصة ما تعلق منه بمعرفة باللغة الإنجليزية.  كانت اللغة أساسية لأن طبيعة عمل شركة إعادة التأمين العراقية تقتضي التعامل مع شركات تأمين وإعادة تأمين أجنبية.  ومما يؤسف له أن هذه الميزة أصبحت مفقودة الآن وفي أحسن الأحوال ضعيفة.  ومن المؤسف أيضاً أن العراق يشهد تراجعاً مريعاً يمتد على مختلف الحقول، ولم يحقق التراكم المطلوب في المجال المعرفي والمهني والصناعي… الخ.
وهكذا يا أستاذي العزيز يصبح ما نقلته عن الشاعر العربي مناسباً، فقد تعلمتُ مبادئ التأمين الأساسية والمهارات المرتبطة بها في العراق يوم كان أركان التأمين رفيعي المستوى يتحركون في فضائه ونحن الشباب ننهل من معارفهم ونتخلق بما هو الأحسن في أدبهم وسلوكهم.  وكان ذلك في زمن كانت فيه شركات التأمين مملوكة للدولة.[6]  حقاً ما قاله شاعرك فقد كنتُ محظوظاً:
جاورتهم زمن الفساد —– فنعم الجارُ في العسراء واليسر
دمت بخير.  مع مودتي وتقديري.”
السؤال مفتاح المعرفة
بعدها كتب الأستاذ فاروق في 6 آب 2015 مؤكداً على أهمية السؤال في تطوير المعرفة ومعايير الجدارة في التعيين في شركة التأمين الوطنية:
“الاخ العزيز الاستاذ مصباح كمال يُقال بأن (السؤال مفتاح المعرفة وطريق العلم). كما يقال: (حسن السؤال نصف العلم). لقد وجهت أسئلتي اليك وكنت مطمئنا بأن (نجاحك كان باهرا) وتم انتقائك للتعيين وفقا لمعايير الجدارة المعتمدة آنذاك في شركة التامين الوطنية وحسب ما اخبرك بذلك ايضا الاستاذ محمد جواد. اتمنى لك عمرا مديدا مع النجاح الدائم في جميع اعمالكم.
فاروق”
عبد الباقي رضا: تصحيح رواية مصباح كمال
عرضتُ هذه التعليقات على الأستاذ عبد الباقي رضا لورود اسمه فيها، فكتب لي ما يلي:
“عزيزي الاخ الوفي السيد مصباح
تحية عطرة مع أطيب التمنيات. قرأت روايتك عن علاقتك بالتأمين وكيف نشأت ولي عليها بعض التوضيح:
1- صحيح ان زوجتي هي التي ذكرت لي قصتك ولكنها ذكرت شخصا ثالثا كنت تزوره في التخطيط غير السيدين اللذين ذكرتهما.
2- طلبتُ منها أن تطلب منك زيارتي في التأمين الوطنية فاستقبلتك فيها وكان بيننا حديث قصير كونت خلاله انطباعا طيبا عنك وسألتك عما اذا كنت مستعدا لأداء اختبار فأيدت ذلك وحيث كنا قد أجرينا قبل أيام امتحانا في اللغة الانكليزية لعدد من خريجي فرع اللغة الانكليزية فقد طلبت نسخة من اسئلته وطلبت منك الاجابة عليها فجلست في غرفة الاجتماعات الصغيرة بين غرفتي السكرتير والمعاون. بعد وقت قصير توجهت الى غرفة المعاون السيد الفارسي عن طريق القاعة التي كنت تكتب فيها فوجدتك متوقفا عن الكتابة فسالتك السبب فأجبت بأنك أكملت الاجابة. وردتني ورقتك وبعد الاطلاع عليها أحلتها الى السيد الفارسي الذي دخل علي بعد قليل قائلا (استاذ هذا منين؟) فأخبرته بقصتك فقال (استاذ لتخلي هذا يفوت علينا) فكان أن صدر أمر تعيينك وأؤكد لك اني لم أطلب أي كتاب من وزارة الاقتصاد ولا علم لي حتى الآن بالكتاب الذي تحدثت عنه.
3- بعد مدة من عملك في الشركة بلغني انك تسعى للعمل في الخارجية أو غيرها فطلبتك وسألتك عن صحة الخبر قائلا اني أقدر طموحك واختصاصك ولكني أود أن أعرف ما اذا كنت موقتا عندنا أم لا لأني أخطط لك أن تكون رجل تأمين وذكرت العبارة التالية (Career Insurer) فاستمهلت لإعلامي بقرارك. بعد أيام جئتني مؤكدا قرارك البقاء في الشركة. بعد هذا بوقت غير طويل رشحتك للدراسة في معهد شركة اعادة التأمين السويسرية في زوريخ. أتذكر جيدا ان التقرير الذي وردني عنك كان ممتازا واعتبرك واحدا من أحسن من انتسب الى هذا المعهد. من حسن الحظ وسعادتي ان ما توقعته لك قد تحقق فعلا واصبحت رجل تأمين من الدرجة الاولى وهو ما أفخر به.
4- أخيرا أذكرك بأني اقترحت عليك دراسة الحقوق مساء استكمالا لاختصاصك في التأمين.
لك مني كل التقدير والاعتزاز ومعذرة عن الاطالة.
عبدالباقي
8 آب 2015
المزيد من الذكريات الشخصية
وبدوري علقت على رسالة الأستاذ عبد الباقي رضا كما يلي:
“أستاذي العزيز
نهارك سعيد
توضيحاتك سديدة وأرحب بها، وأنا على ثقة عالية بذاكرتك الفذّة.  إن كنت لا تمانع بودي توصيل ما كتبتَ إلى السيد فاروق يونس رغم عدم معرفتي الشخصية به، لكنني أنظر إليه كعراقي محب لوطنه ويتابع عن كثب ما ينشر عن التأمين كونه كان في الماضي عضواً في مجلس إدارة شركة التأمين العراقية.
لقد قمت بتثبيت بعض التعليقات على رسالتك من باب استكمال المعلومات.
طابت أوقاتك ودمت بخير.
مصباح
8 آب 2015
الفقرة 1
لقد كانت علاقتي محصورة بكامل العضاض وحارث الحيّالي. لا أذكر شخصاً ثالثاً.  ربما كان الشخص الثالث هي السيدة عطية الكيلاني التي تزوجت من صبري زاير السعدي الذي أنجز شهادة الدكتوراه في جامعة برمنغهام في موضوع التخطيط الاقتصادي (وهما يعيشان الآن في بريطانيا).
الفقرة 3
حقاً كنتُ أسعى للعمل في وزارة الخارجية بحكم العقد بيني وبين وزارة المعارف التي تضمنت فقرة للعمل في الدولة لفترة تعادل سنوات الدراسة، وهي خمس سنوات، وبالتخصيص في وزارة الخارجية.  ولم يتحقق هذا الأمر بسبب التغيرات السياسية.[7]
خلفية استمهالي لأخذ قرار نهائي بالعمل بشكل دائمي في شركة التأمين الوطنية كانت تكمن في خشيتي من خسارة استقلالي الفكري والخضوع للأوامر الحزبية والسياسية.  ولذلك طلبت الاستمهال لتقليب وجهات النظر وتوصلت أخيراً إلى قرار نهائي للاستمرار في العمل في التأمين الوطنية باعتبارها مؤسسة تجارية مهنية لا تخضع للإملاءات السياسية المباشرة.  وقد تحقق ظني وحسن اختياري في ظل إدارتك المهنية رفيعة المستوى للشركة، إذ لم أتعرض إلى أي ضغط سياسي أو حزبي سوى ما كنا نخضع له جميعاً في ملء استمارات التصريح بالانتماء السياسي، وفيما إذا كان أحد الأقارب قد تعرض للسجن أو الإعدام … الخ.
وكنتُ محط احترام إدارة الشركة وزملائي.  وبفضل سياستك في بناء الكوادر صار ارتباطي بالتأمين الوطنية ثابتاً حتى أنني، في وقت ما عند تأسيس الشركة العامة لتسويق النفط عرض عليَّ السيد عدنان الجنابي، وهو من خريجي بريطانيا، العمل في الشركة لكنني اعتذرت بأدب.
لقد كنتُ محظوظاً حقاً أن أعمل تحت إدارتك، وأدين بفضلك في التوجيه وفي توفير الفرص لي.  أذكر أنك “انتشلتني” من قسم إعادة التأمين، وكان يرأسها المرحوم أنطوان سليم إيليا، كي أعمل في قسم التأمين الهندسي مع المرحوم مؤيد الصفار. وحتى أنك أسرت لي بأن طبيعة أسلوب عمل أنطوان، وكان متمرساً ومهنياً جيداً، كانت تميل نحو “الاحتكار” بحيث لم تتوفر لي فرصة التقدم في القسم.  ربما عبّرتُ عن بعض التذمر بهذا الخصوص، وربما التقطه مؤيد وأوصله إليك.  لقد كان ذلك نقلة أساسية في حياتي الوظيفية في الشركة وقد استمتعت بها.”
فاروق يونس يحدد سر النجاح في العمل
وقد استأذنت الأستاذ عبد الباقي رضا لعرض إيضاحاته على الأستاذ فاروق يونس فوافق على عرضها عليه أو على غيره.  وعلى إثر ذلك كتب الأستاذ فاروق ما يلي بعد أن أثنى في رسالة قصيرة للدكتور بارق شبر “على هذا التفاعل الإيجابي في نشر تجارب الاخرين الخاصة بحياتهم المهنية”:
“أستاذي العزيز الدكتور بارق شبر
قرأت توضيحات الاستاذ عبد الباقي رضا والحوار المتناغم بينه وبين الاستاذ مصباح كمال.
الخلاصة:
يذكر عالم الاجتماع العراقي الدكتور على الوردي ما معناه:
ان سر النجاح والتفوق في الحياة يتطلب توافر ثلاثة عوامل مجتمعة وهى:
اولا – الموهبة
ثانيا – الجد (مَنْ جدَّ وَجَدْ)
ثالثا – الحظ (البخت)
لقد اجتمعت هذه العوامل الثلاثة لدى الاستاذ مصباح كمال – امتلك الموهبة وتدل سيرته – اطال الله عمره – على انه كرس حياته للبحث والتعلم في اللغة اولا وفى صناعة التامين ثانيا.
وكانت الثالثة ان حالفه الحظ في العمل مع ذلك الفريق من خبراء التامين – اصحاب الأيادي النظيفة والفكر التأميني الخلاق.
وبالمناسبة بعد تأميم شركات التامين حصلت مشكلة تمثلت في اعادة احتساب رواتب الموظفين على اساس الشهادة المدرسية او الجامعية وكان من نتيجة ذلك ان خسر قطاع التامين العراقي بعض كوادره ممن لا يملكون الشهادة الجامعية والذين غادروا العراق للعمل في شركات التامين الاجنبية في منطقة الخليج.
ارجو – ان رأيتم ذلك مناسبا التكرم بإعادة ارسال رسالتي هذه للسيدين المذكورين مع خالص تحياتي لكم جميعاً.
اخوك ابو محمد”
لا أحمل موهبة أو مواهب لكنني كنت من النمط المثابر، وكنت اعتبر العمل مصدر متعة وليس سخرة مملة لا فكاك منها للحصول على مرتب شهري.  وكنت حقاً محظوظاً في عملي مع من يسميهم فاروق يونس “اصحاب الأيادي النظيفة والفكر التأميني الخلاق،” وفي كسب الاحترام الذي لقيت منه الكثير من رؤسائي وأقراني في شركة التأمين الوطنية.
11 آب 2015
فاروق يونس يروي حكاية مهمة عن اليهود، وافتتاح كلية التجارة والاقتصاد، وأهمية اللغة، وآثار الجهل الرسمي بالتأمين وإعادة التأمين
12 آب 2015
أستاذي العزيز مصباح كمال
اذا اتجهت النية الى تحويل الملاحظات والتعليقات المتبادلة بيننا الى خاطرة، حسب ما اقترحه الاخ العزيز الدكتور بارق شبر، فأرجو اضافة ما يلى بعد موافقتك وموافقة أخي العزيز الاستاذ عبد الباقي رضا.
1-     منذ العهد العثماني وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى (1918) هيمنت فروع الشركات الاجنبية ووكالاتها على النشاط التأميني في العراق.
2-     بعد تأسيس الدولة العراقية (1921) كان لليهود الدور الفاعل في النشاط التجاري اذ شكل التجار اليهود الاكثرية في مجلس ادارة غرفة تجارة بغداد التي تأسست عام 1926.
3-     قبل الحرب العالمية الثانية ظهر وكلاء التامين العراقيين[8] وتأسست اول شركة تامين في العراق وهي شركة الرافدين للتأمين برأسمال عراقي وأجنبي (1946).
4-     من الجدير بالذكر ان انتشار مدارس اليهود في العراق منذ أواسط القرن التاسع عشر واتقانهم للغات الاجنبية (الفرنسية والانكليزية) كان خير عون لهم لولوج الاسواق الخارجية واقامة العلاقات الوطيدة مع شركائهم في بريطانيا والهند.
5-     ومنذ عام 1878 كانت الشركات التجارية اليهودية في بغداد تهيمن بشكل كلى على تجارة الاستيراد مع بريطانيا بينما يسيطر التجار المسيحيون المحليون على التجارة مع فرنسا.  وفى عام 1910 كان التجار اليهود يحتكرون التجارة المحلية بالكامل (انظر: د. عماد عبد اللطيف سالم، الدولة والقطاع الخاص في العراق، بغداد 2001، ص79).  وقد ترافق صعود التجار اليهود في العراق مع نمو المصالح الانكليزية وكان هناك تزامن بين الايقاع المحموم للاختراق الإنكليزي للسوق العراقية والتزايد السريع لعدد سكان بغداد من اليهود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(سالم، مصدر سابق).  ويضيف: “وما يهمنا في هذا الصدد هو ان تركز راس المال في أيدى التجار اليهود كان يعنى عدم استقرار راس المال في العراق وعدم الرغبة في توطينه واستثماره في أي مجال إنتاجي حتى قبل ظهور الكيان الصهيوني بوقت طويل بل ان بقاء المال اليهودي دون وطن ربما كان تمهيدا لخلق دولة اسرائيل وتوطين هذا المال فيها لاحقا.
6-     بعد قيام دولة اسرائيل وقيام الحكومة العراقية (حكومة توفيق السويدي) بإسقاط الجنسية العراقية عن اليهود العراقيين (قانون إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين رقم 1 لسنة 1950) خسر العراق عددا لا يستهان به من التكنوقراط من المحاسبيين والمختصين بصناعة التامين والصيرفة والتجارة الخارجية والوكلاء بالعمولة … الخ.[9]
7-     وجدت الحكومة آنذاك الحل المناسب في افتتاح كلية التجارة والاقتصاد لتدريس الاقتصاد والمحاسبة، وافتتاح فرع لدراسة التامين سرعان ما اغلق.  اتخذت الكلية من طُولَه مهجورة (اصطبل)، كانت تقع مقابل محطة قطار شرق بغداد، مقرا لها، وتم جلب بعض (المدرسين) من مصر ومن اساتذة الاقتصاد والحقوق العاملين في كلية الحقوق العراقية.  وتخرجت اول دورة من الكلية في 1949-1950.
8-     استطاع خريجو الدفعة الاولى والدفعة الثانية من كلية التجارة والاقتصاد إملاء بعض الشواغر في المصارف وشركات التامين والمحاسبين في دوائر الدولة وبعض الشركات التجارية القليلة في القطاع الخاص.
4- لكن المشكلة المستعصية المتمثلة بعدم اجادة معظم خريجي كلية التجارة والاقتصاد وخريجي اعداديات التجارة اللغة الانكليزية الضرورية لممارسة اعمال التامين والتجارة الخارجية والصيرفة … الخ ظلت قائمة مثلما ظلت قيمة التأمين ضعيفة لدى الجمهور العام وحتى في الدوائر الرسمية.  وبهذا الصدد، بودي أن اذكر القصة الطريفة الاتية:
كان ضمن تشكيلات وزارة المالية وحدة باسم دائرة التفتيش الإداري ومن بين اختصاصاتها التفتيش والمراقبة على اعمال شركات التامين، وحصل ان عثر مدير التفتيش على ضالته حيث وجد ان شركة اعادة التامين العراقية تقوم بإعادة التامين لدى مكتب (شركة) تأمين أجنبية لعدة سنوات وتتحمل دفع اقساط التامين دون تحمل الشركة الاجنبية اية خسارة.
وصل الخبر الى وزير التجارة فقام بتكليفي مع الاستاذ فاروق جورج المدير الفني لشركة اعادة التامين بالتحقيق في الموضوع، ولكن ما ان سمع الدكتور مصطفى رجب، مدير عام شركة اعادة التامين العراقية بالخبر حتى قدم استقالته الى الوزير احتجاجا على هذا التصرف.  اتصلت بالسيد فاروق جورج (هذا اسمه على ما اتذكر) وقلت له ان مهمتنا هي تدقيق عملية اعادة التامين وليس التحقيق مع مدير عام الشركة.  المهم، استدعينا كاتب التقرير الإداري فقال الرجل والله انا لا افهم بالتامين ولا بإعادة التامين.  ثم القى عليه الاخ جورج محاضرة في كيفية اتخاذ قرار اعادة التامين بالاعتماد على الـ Value Judgement.  فتأمل عزيزي القارئ من يُقيّم عمل من؟  المهم، أُغلق التحقيق وسحب الدكتور مصطفى رجب استقالته لكنه حسب ظني لم يكن مرتاحا من تصرف الوزير معه بهذا الاسلوب البعيد عن آداب التعامل المهني النزيه.
مع التقدير.
فاروق يونس
************************انتهى***********************
حقوق النشر محفوظة لشبكة الاقتصاديين العراقيين. يسمح بالاقتباس واعادة النشر بشرط الاشارة الى المصدر. 17 آب/اوغسطس 2015


[1] عنوان النص الذي كتبته هو “مقاطع غير مكتملة من سيرة العمل في شركة التأمين الوطنية 1968-1977 متوفر لدي لمن يرغب الاطلاع عليه.
[3] ربما يذكر البعض أن عام 1967 وبعده شهد ما كان يعرف بأزمة الخريجين.  شهدت هذه الفترة خروج أعداد من كوادر العراق في مجالات مختلفة للعمل في الخارج.
[4] كانت معرفتي بالتأمين محدودة تكاد أن تقتصر على ما تعلمته في المرحلة ما قبل دخول الجامعة من بعض الكتب المقررة أذكر منها:
J. L. Hanson, A Textbook of Economics
[5] موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين

نشرت بعد ذلك في مجلة التأمين العراقي
[6] أتحدث هنا عن حالة خاصة وقطاع واحد دون أن يعني ذلك التغاضي عن السياسات الخاطئة والمدمرة ومحاربة الأفكار والبطش بالناس.  أقول هذا لأنني حُرمت أيضاً من إكمال دراستي العليا لأن هناك مجلس لقيادة الثورة يقرر من هو المؤهل للدراسة العليا. ولولا موافقة الأستاذ عبد الباقي رضا، المدير العام لشركة التأمين الوطنية، على قبول طلبي لإجازة دراسية عام 1977 لما استطعت السفر وإكمال دراستي للماجستير في بريطانيا على حسابي الشخصي.  ولكن في منتصف دراستي أعلمني قسم الأفراد في الشركة أن مجلس قيادة الثورة لم يوافق على دراستي للماجستير وعليَّ أن التحق بالعمل وإلا فإنني سأعتبر مستقيلاً – أي حرماني من التوظيف في شركات أو مؤسسات الدولة في المستقبل.
[7] إضافة: وبسبب إخضاعي لامتحان في القانون الدولي الخاص مُعد لمن هو خبير في هذا المجال وليس لخريج جامعي جديد، وبالتالي فشلي أو إفشالي في الامتحان.  وفي ظني أن فشلي كان بسبب افتقادي لمن يدعمني سياسياً.  واستغربُ أن الامتحان لم يضم اختباراً للغة العربية أو الإنكليزية.
[8] مصباح كمال، أوراق في تاريخ التأمين في العراق: نظرات انتقائية، فصل: “وكالات التأمين في العراق عام 1936: محاولة في التوثيق”، (طبعة إلكترونية منقحة ومزيدة، 2014)، ص 58-91.  صدرت الطبعة الورقية بدون هذا الفصل، (بغداد: منشورات شركة التأمين الوطنية، 2011 [2012]).
[9] إن عدداً من يهود العراق استمروا في العمل في وكالات التأمين، وهي وكالات خاصة كانت تقوم بإنتاج الأعمال لشركات التأمين ومنها شركة التأمين الوطنية. وقد علمت من زملاء لي في لندن أن البعض منهم ظل يعمل حتى سبعينيات القرن الماضي ثم اضطروا أخيراً إلى مغادرة العراق. ومن المعروف أن انشغال اليهود في أعمال التأمين والصيرفة وتجارة الاستيراد والتصدير … الخ قديمة، وكان لهم دور مهم أيام الإمبراطورية العثمانية سوية مع الملل الأخرى. ولعل أشهر وأغنى عائلة يهودية تجارية ومالية هي عائلة ساسون البغدادية التي عمل أفرادها في التجارة الخارجية منذ القرن التاسع عشر، وقامت بتأسيس محطات ومكاتب لها في الهند وبريطانيا (مانشستر على وجه التحديد متخصصة في تجارة الأقطان). كما قامت العائلة بتأسيس أول ميناء في بومباي عام 1875 ما زال يحمل اسمها حتى اليوم.
هناك معلومات وبيانات اقتصادية عن يهود العراق في كتاب حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول: من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة: عفيف الرزاز (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1990)، الفصل التاسع: الجلبيون والتجار والتجار-الصرافون اليهود.
وكذلك كتاب:
Abbas Shiblak, Iraqi Jews: A History of Mass Exodus (London: Saqi, 2005), pp 39-55.

تعليقات